البنك المركزي الأوروبي يواجه أزمة حكم في قلب منطقة اليورو
اعتاد مسؤولو البنك المركزي الأوروبي على مواجهة الأزمات العالمية، لكنهم الآن يواجهون مشكلة أقرب إلى عقر دارهم. إنها أزمة حكم في قلب منطقة اليورو نفسها.
سيُحدّد صانعو السياسات معدلات الفائدة في فرانكفورت هذا الأسبوع لأول مرة منذ انهيار الحكومتين في باريس وبرلين بسبب خلافات حول ميزانيات العام المقبل، ما يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي لأكبر اقتصادين في المنطقة النقدية التي يديرونها.
ورغم أن الفراغ السياسي في أوروبا لن يمنع خفضاً محتملاً للفائدة يوم الخميس، فإنه يثير الشك حيال التوقعات الفصلية التي يتم تكوينها حالياً، ويزيد من حالة عدم اليقين التي تواجه المسؤولين في وقت يترقبون فيه فترة حكم دونالد ترامب المقبلة وتهديداته بفرض تعريفات جمركية.
عدم اليقين في أوروبا
تتمثل الأسئلة الأكثر إلحاحاً للبنك المركزي الأوروبي في كيفية تطور السياسة المالية في كل من فرنسا وألمانيا، وكيف ستؤثر احتمالات الجمود السياسي والاضطرابات على المستهلكين والشركات. وقد تدفع هذه الإجابات البنك المركزي إلى اتخاذ مسارات متباينة، وفقاً لفابيو بالبوني، الخبير الاقتصادي لدى "إتش إس بي سي" (HSBC) في لندن.
يُنتظر أن تقوم البنوك المركزية بإجراء سلسلة من التغييرات الأخيرة على تكاليف الاقتراض، قبل أن تثير عودة ترمب إلى البيت الأبيض اضطرابات محتملة للتجارية العالمية.
أضاف بالبوني: "من ناحية، قد تؤثر حالة عدم اليقين والسياسات على الاستهلاك والاستثمار، مما ينعكس سلباً على النمو. ومن ناحية أخرى، كان البنك المركزي الأوروبي يتطلع إلى تشديد مالي العام المقبل لتهدئة التضخم، خاصة في فرنسا، لكن الوضع الحالي يثير تساؤلات حول إمكانية تحقيق ذلك".
تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتعيين رئيس وزراء جديد بسرعة بعد فشل ميشيل بارنييه في تمرير خطة لخفض العجز بمقدار 60 مليار يورو (63.5 مليار دولار). وستكون أولويته تأمين موافقة البرلمان ذاته الذي رفض الموازنة.
وفي ألمانيا، حُدّد موعد الانتخابات الجديدة لشهر فبراير بعد انهيار التحالف الثلاثي بقيادة أولاف شولتز، الذي كثيراً ما شهد خلافات حول السياسات الاقتصادية. وحتى لو فاز زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي المعارض، فريدريش ميرتس، فإن مفاوضات تشكيل الحكومة ستستغرق وقتاً طويلاً.
أسعار الفائدة
يتوقع أن يُجري البنك المركزي الأوروبي تخفيضاً رابعاً في أسعار الفائدة هذا الأسبوع، بمقدار ربع نقطة مئوية، في ظل تركيزه الحالي على تحفيز النمو المتباطئ بدلاً من السيطرة على التضخم.
حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، من أن اقتصاد منطقة اليورو من المرجح أن يظل هشاً على المدى القريب.
سيوافقون أيضاً على جولة جديدة من التوقعات التي يحتمل أن تكون مستندة إلى التطورات حتى منتصف نوفمبر فقط، وهو التاريخ النهائي المعتاد للجولة الأخيرة من التوقعات خلال العام.
سارع المجلس المحافظين إلى خفض الفائدة في أكتوبر الماضي عندما بدا أن اقتصاد منطقة اليورو قد يفقد زخمه. آنذاك، ذكرت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، عدة مخاطر خارجية، مثل الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط.
لكن بعد أيام، شكل فوز ترمب في الانتخابات الأميركية والتعهد بزيادة التعريفات الجمركية مخاطر إضافية. واليوم، يبدو أن مصادر عدم اليقين الكبرى باتت داخلية.
الأسواق المالية
بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي، ما يهم الآن هو ارتفاع حالة عدم اليقين بشأن توقعات منطقة اليورو، وهو عنصر جديد يؤثر على النمو، وفق شارلوت دي مونبلييه، الخبيرة الاقتصادية لدى "آي إن جي" (ING).
عندما تولى ميشيل بارنييه، منصب رئيس وزراء فرنسا في سبتمبر، لم يتوقع الكثيرون أن الرجل الذي حافظ على وحدة الاتحاد الأوروبي سيجد نفسه أمام إمكانية الإطاحة بحكومته
ورأت أن الوضع السياسي المعقد قد يُعيق أي جهود إصلاحية لمواجهة التحديات الاقتصادية طويلة الأجل، مثل تلك التي أشار إليها التقرير الشهير لماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي.
هناك عقدةٌ أخرى تتمثل في تأثير ذلك على الأسواق المالية. أدى ارتفاع العوائد على السندات الفرنسية إلى تكهنات بأن البنك المركزي الأوروبي قد يضطر لاستخدام أداة "حماية الانتقال" من أجل السيطرة على تكاليف الاقتراض. ولكن رئيس البنك المركزي الألماني، يواخيم ناجل، أوضح أن هذه الأداة ليست مصممة لوقف التقلبات الناتجة عن المشاكل السياسية.
التباطؤ الاقتصادي
حالياً، قد يكون أفضل خيار للبنك المركزي الأوروبي لمواجهة الاضطرابات هو التركيز على النتائج المحتملة بدلاً من الاعتماد على الحالة الأساسية المتوقعة، وهي استراتيجية تم تطويرها خلال فترة الجائحة وقبيل غزو روسيا لأوكرانيا، وفقاً لما ذكره الخبير الاقتصادي لدى "يو بي إس" (UBS) في فرانكفورت فيليكس هيوفنر.
بعد مقامرة الانتخابات المبكرة التي دعا إليها إيمانويل ماكرون في يوليو الماضي، تقدمت مارين لو بان، أهم المنافسين له على السلطة، حتى تجرب دورها في إلقاء النرد.
وأوضح: "سيتعين على صناع القرار في البنوك المركزية التفكير في إطار سيناريوهات مختلفة". وأضاف أنه بسبب العوامل المتغيرة العديدة، يجب على البنك المركزي الأوروبي انتظار مزيد من البيانات، بدءاً من استطلاعات الأعمال لشهر ديسمبر من مؤسستي "إس آند بي غلوبال" و"إنسي" (Insee) الفرنسية، لتقييم تأثير الاضطرابات السياسية على الشركات والأسر.
في ألمانيا، ظلّت توقعات الأعمال منخفضة الشهر الماضي بعد انهيار الحكومة. ووفقاً لتحليلات "بلومبرج إيكونوميكس"، ستؤدي المشاكل السياسية إلى مزيد من التباطؤ في اقتصاد متعثر أصلاً.
مسار خفض الفائدة
أصبحت فترة الضعف الطويلة نقطة نقاش رئيسية في الحملة الانتخابية الحالية. ومن بين الحلول التي تتم مناقشتها حالياً تخفيف السقف الدستوري للاقتراض في البلاد. ومع ذلك، يشير روبن وينكلر، كبير الخبراء الاقتصاديين المختصين بالشأن الألماني في "دويتشه بنك"، إلى أن تأثير هذه الإجراءات لن يظهر بسرعة.
قدّم بنك "جيه بي مورغان" موعد توقعه لتخفيض المركزي الأوروبي سعر الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية إلى ديسمبر المقبل، محتجاً بتباطؤ النشاط الاقتصادي لمنطقة اليورو.
رجح وينكلر أن تستمر حالة عدم الاستقرار السياسي حتى فصل الربيع، مما سيؤثر سلباً على الاستثمارات على الأقل خلال النصف الأول من العام". أضاف: "التوقعات لعام 2026 وما بعده تعتمد بشكل كبير على نتائج الانتخابات والمفاوضات لتشكيل الائتلاف الجديد في العام المقبل".
يصعب التنبؤ بتأثير كل هذه التطورات على مسار خفض الفائدة لدى البنك المركزي الأوروبي. حالياً، يرى الخبراء الاقتصاديون احتمالية خفض ربع نقطة في كل اجتماع حتى يونيو، بينما يظل المستثمرون يتوقعون تخفيضات أكبر خلال الأشهر المقبلة. ويتفق بالبوني من "إتش إس بي سي" مع هذا السيناريو في ظل التطورات الأخيرة.
إذا استمر تراجع الطلب بسبب انخفاض ثقة المستهلكين، مما يجعلهم ينفقون أقل، وإذا تسببت حالة عدم اليقين في السياسات في تأجيل الشركات لقرارات الاستثمار، فقد نشهد تسريعاً في خفض أسعار الفائدة العام المقبل، بحسب بالبوني.