زيارة محفوفة بالتحديات.. ميلوني تسعى لتقارب مع ترامب وسط خلافات أوروبية أمريكية

يبدو أن المقولة الانهزامية الشهيرة في مدينة تريستي الإيطالية: "لا يمكن فعل ذلك"، تنطبق مجددًا، ولكن هذه المرة على آمال رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني التي تسعى إلى تحقيق تقارب سياسي واقتصادي مع واشنطن خلال زيارتها الجارية للولايات المتحدة. المدينة الساحلية التي لطالما كانت ملتقى طرق بين الشرق والغرب، أصبحت الآن رمزية لتحديات ميلوني في بناء جسور عبور الأطلسي وسط خلافات متصاعدة بين أوروبا وأمريكا.
تصاعد التوتر التجاري وتباعد الرؤى الأوروبية الأمريكية
لم تكن العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا أكثر توتراً كما هي عليه اليوم، إذ تتصاعد الفوضى التجارية بين الجانبين، في ظل سياسات حمائية وتوجهات متشددة من الطرف الأمريكي، خاصة في حال عودة دونالد ترمب المحتملة إلى سدة الحكم. في هذا الإطار، سعت ميلوني إلى التقرب من ترمب، عبر مشاركتها المؤيدة في مؤتمر العمل السياسي المحافظ، وتوددها إلى مشاريع كبرى مثل "ستارلينك" التابعة لإيلون ماسك، بالإضافة إلى نهجها المعتدل نسبيًا تجاه الرسوم الأمريكية، ما وضعها في تناقض صارخ مع المزاج العام الأوروبي.
تحذيرات أوروبية من التصعيد ضد واشنطن
على الرغم من أن ترمب وصف ميلوني بأنها "رائعة"، إلا أن سياساته التجارية لم تُظهر أي تهاون تجاه حلفاء بلاده التقليديين. إذ فرض سابقًا رسوماً جمركية على المعادن والسيارات الأوروبية، ويهدد بفرضها على جميع السلع في أقل من 90 يوماً. وتمثل الصادرات الإيطالية إلى الولايات المتحدة ما يقارب 3% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، حسب بيانات بلومبرغ إيكونوميكس، وقد تكبدت مجموعة "ستيلانتيس" - التي تضم علامات مثل فيات، بيجو، وجيب - خسائر وصلت إلى 40% من قيمتها السوقية هذا العام وحده.
زيارة مثيرة للانقسام داخليًا وخارجيًا
زيارة ميلوني لترمب أثارت انقساماً حاداً في الداخل الإيطالي؛ فبينما يصفها البعض بأنها محاولة ذكية لفتح قنوات مع واشنطن، يرى فيها آخرون تساهلًا مفرطًا قد يكلف إيطاليا كثيرًا. الرئيس الأمريكي السابق يحب تصوير نفسه كقائد يسعى الآخرون لاسترضائه، ويستغل منافسو ميلوني من اليسار هذا الخطاب لاتهامها بالخضوع، بينما تدعو فرنسا إلى تصعيد تجاري مضاد ضد واشنطن.
ضغوط سياسية داخلية على ميلوني
رغم استقرار شعبيتها نسبيًا، إلا أن الائتلاف اليميني الذي تقوده ميلوني يشهد توترات متزايدة، خصوصًا مع المواقف المتباينة لنائب رئيس الوزراء ماتيو سالفيني، الذي يشعل الجدل في القواعد الشعبوية بخطابه حول أوكرانيا والدفاع الأوروبي. وفي ظل هذه الأجواء، تتزايد الضغوط على ميلوني لتحقيق نتائج ملموسة من هذه الزيارة، التي قد تنتهي دون أي تنازلات من قبل إدارة ترمب بشأن الرسوم الجمركية.
محاولة لكسب الوقت والمكاسب
برغم الصورة العامة غير المشجعة، إلا أن الزيارة قد تكون فرصة استراتيجية لميلوني، إذا أحسنت استخدام أسلوب الإطراء الشخصي المعروف بفعاليته مع ترمب. في الوقت نفسه، يمكنها محاولة فهم ما تريده واشنطن حقًا، وهو السؤال الجوهري الذي لم تستطع أوروبا حتى الآن إيجاد إجابة له. ففي آخر اجتماع بين مفوض التجارة الأوروبي ماروس سيفكوفيتش ونظرائه الأمريكيين، لا تزال الولايات المتحدة مترددة في تحديد موقف واضح تجاه الملفات العالقة.
مفاوضات معقدة وتوقعات ضبابية
السيناريو الأقرب هو أن تطالب واشنطن أوروبا بتنازلات صعبة تتضمن إلغاء اللوائح التقنية أو تخفيض ضريبة القيمة المضافة، أو حتى زيادة الواردات من السلع الأمريكية. وقد يكون تقليل الاعتماد على الصين من أبرز الشروط الأمريكية، وهو ما يعمق الانقسامات الأوروبية، في ظل رغبة إسبانيا في زيادة الاستثمارات الصينية، وسعي ألمانيا لحماية 209 مليارات دولار من تجارتها مع بكين.
ميلوني وتحدي القيادة الأوروبية الغائبة
في ظل افتقار أوروبا إلى قيادة موحدة، تبدو زيارة ميلوني إلى واشنطن وكأنها محاولة فردية لاحتواء الأزمة. وقد تحاول رئيسة الوزراء الإيطالية الإشارة إلى انسحاب بلادها من مبادرة الحزام والطريق الصينية كموقف مؤيد للأطلسي، وتستعرض ميناء تريستي كحلقة وصل أوروبية جديدة بدلًا من أن يكون قاعدة نفوذ لبكين.
لكن كما تحذر نيكوليتا بيروزي من مركز الدراسات الإيطالي (IAI)، فإن هذه الزيارة قد تنقلب على ميلوني إذا ما بالغ ترمب في مطالبه، خصوصًا مع تصاعد الأصوات الأوروبية الداعية لمواجهة سياسة "أمريكا أولاً" بالمثل.
نحو استراتيجية أوروبية أكثر جرأة
بغض النظر عن نتائج الزيارة، يجب على ميلوني، ومعها قادة أوروبا، التفكير في خطة طويلة الأمد لتقوية الموقف الأوروبي في مواجهة حروب تجارية متوقعة. فقد دفعت سياسات ترمب ألمانيا مثلاً إلى طرح إصلاحات مالية كبرى لتعزيز الإنفاق الدفاعي، في محاولة للخروج من دائرة الصدمة والانكماش.
ويمكن تنفيذ توصيات تقرير ماريو دراغي بشأن التنافسية، وزيادة الطلب المحلي، وتقليل الاعتماد على الخارج، باعتبارها خيارات ضرورية أكثر من كونها ترفًا، وهي جملة بات من الممكن سماعها حتى في مدينة تريستي، التي اعتادت أن تقول: "لا يمكن فعل ذلك".