قناة بنما تعرقل جهود الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لكبح التضخم
يتابع رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جيروم باول بعناية مستويات التوظيف والأجور وأسعار المستهلكين والعديد من المقاييس الأخرى لمعرفة إلى أين يتجه معدل التضخم في الولايات المتحدة العام المقبل، لكنْ ربما يتعين عليه أيضاً مراقبة مستويات المياه في بحيرة جاتون.
هذه هي البحيرة التي تغذي أهوسة قناة بنما بالمياه العذبة اللازمة لحمل السفن أثناء مرورها من المحيط الهادي إلى الأطلسي، لكنَّ الجفاف الشديد تسبب في انخفاض منسوب المياه في البحيرة إلى ما دون المستوى الطبيعي، مما أدى إلى فرض قيود على حمولة السفن وزيادة الرسوم التي تدفعها من أجل عبور القناة.
كما أنَّه يثير قلق الاقتصاديين وخبراء سلاسل التوريد، وبينما تتراجع اختناقات سلاسل الإمداد في العالم، يهدد الجفاف في بنما، فضلاً عن أنماط الطقس المقلقة في أماكن أخرى بإحياء بعض الفوضى التي حدثت في 2021، عندما أدى ارتفاع تكاليف الشحن وطلب المستهلكين لنقص السلع، مما ساعد على رفع التضخم في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوياته في 40 عاماً.
ظاهرة "إل نينيو"
إذا استمرت مستويات بحيرة جاتون في الانخفاض كالمتوقَّع؛ فسيكون رد فعل السوق هو ارتفاع أسعار الشحن البحري والاندفاع لإيجاد طرق بديلة من آسيا إلى الولايات المتحدة، بحسب ما قال خبراء اللوجستيات.
قال جوناثان أوستري، أستاذ الاقتصاد بجامعة جورج تاون والمسؤول السابق في صندوق النقد الدولي، إنَّ الجفاف يهدد أيضاً بتقويض معركة الاحتياطي الفيدرالي لتقريب معدل التضخم من هدفه البالغ 2%.
وأضاف أوستري أنَّ التضخم في الولايات المتحدة يتباطأ تدريجياً، وفقاً للمقياس المفضل لـ الاحتياطي الفيدرالي، لكن مع بلوغه 4.7% يظل "عند مستوى غير مريح للغاية للبنوك المركزية، كما أنَّ آخر شيء يحتاجون إليه هو تجاهل الأخبار غير المواتية عن الشحن" مثلما فعلوا في 2021، والذي أسماه "سوء تصرف".
تتوقَّع هيئة قناة بنما أن يبلغ مستوى المياه في 31 يوليو 78.2 قدم (23.86 متر)، متجاوزاً أدنى مستوى سابق له على الإطلاق عند 78.3 قدم في مايو 2016، وأقل بكثير من متوسط السنوات الخمس لشهر يوليو البالغ 84.9 قدم.
ومما زاد الطين بلة؛ تَشَكُّل ظاهرة إل نينيو في غرب المحيط الهادي، التي من المتوقَّع أن تخل بالأنماط المناخية الطبيعية بحلول نهاية هذا العام، وفي حين أنَّ هذا يمكن أن يسبب هطول أمطار غزيرة في بعض المناطق؛ فإنَّه عادة ما يعني في بنما الجفاف الشديد ودرجات حرارة أعلى من المعتاد.
زيادة كلفة الشحن
زاد الجفاف بالفعل من كلفة نقل البضائع، ودفع أيضاً سلطة القناة إلى أن تخفّض الجزء الغاطس من بدن السفن منذ فبراير، وللامتثال لهذه القيود؛ يتعين على السفن الكبيرة تخفيف حمولتها عن طريق نقل عدد أقل من الحاويات بشكل عام أو تقسيم الكمية نفسها من البضائع على أكثر من سفينة، في كلتا الحالتين، تكون النتيجة زيادة أسعار السلع الاستهلاكية والصناعية التي تعبر القناة، وبدأت شركات نقل بحري أيضاً فرض رسوم على الحاويات على أساس عدد الصناديق فيها عملاً بقيود الغاطس.
أسعار الشحن في الممرات المائية الأخرى سترتفع أيضاً إذا أجبرت مستويات المياه المنخفضة شركات الشحن على إيجاد بدائل- خاصةً إذا كان شهرا ذروة الشحن في أغسطس وسبتمبر، عندما يعمد تجار التجزئة إلى بناء مخزون قبل موسم التسوق في العطلات، أقوى من المتوقَّع.
نقطة مضيئة واحدة تتمثل في أنَّ تكاليف الشحن البحري ومستويات الطلب انخفضت بشدة عن العام الماضي، فقد أدت وفرة المستودعات المكدسة بالبضائع والمخاوف بشأن الاقتصاد الأوسع إلى كبح الطلبات الجديدة، ومع ذلك؛ ما تزال أحجام البضائع المشحونة كبيرةً، إذ بلغ الطلب المستوى نفسه تقريباً في 2019، وفقاً لبيتر ساند، كبير المحللين في شركة "زينيتا" (Xeneta) ومقرها أوسلو، التي تتعقب أسعار الشحن.
وفي حين تعاني قناة بنما من نقص المياه منذ ما قبل توسعة عام 2016 التي سمحت بمرور سفن الحاويات العملاقة، التي تسمى "نيو باناماكس"، بدأ الجفاف هذا العام قبل موعده، ومن المتوقَّع أن يكون أكثر حدة من ذي قبل.
مخاوف التضخم
يبلغ أقصى حد للجزء الغاطس من بدن السفن حالياً 44.5 قدم، بانخفاض عن الطول الطبيعي البالغ 50، ومن المقرر أن ينخفض مرة أخرى إلى 44 في 13 يونيو، وقد يؤدي ذلك إلى تقليل معدل الشحن عبر القناة 40%، وفقاً لناثان سترانج، رئيس الشحن البحري في شركة "فليكسبورت" (Flexport) لخدمات الشحن والتخليص الجمركي.
وإذا وصل منسوب المياه إلى 78.2 قدم مثلما تتوقَّع سلطة القناة؛ سينخفض الحد الأقصى للجزء الغاطس إلى 43 قدماً، مما يقلل طاقة الشحن أكثر.
وحتى لو لم يفسد الجفاف في بنما موسم التسوق الخاص بعيد الميلاد مثلما فعلت اضطرابات سلاسل التوريد في 2021، فما يزال من الممكن أن يرفع معدل التضخم، وإذا استمرت الأوضاع في التدهور؛ فقد يضطر الاحتياطي الفيدرالي، الذي يستعد على ما يبدو لوقف رفع أسعار الفائدة مؤقتاً في اجتماعه المقبل في 13 و14 يونيو إلى استئناف حملته للسيطرة على ارتفاع الأسعار، خاصة مع إثبات التضخم أنَّه أكثر استعصاءً على التراجع مما كان يأمله الكثيرون، في وقت يُنظر فيه إلى السلع الاستهلاكية على أنَّها المساهم الأكبر في التضخم.
قال أوستري، الخبير الاقتصادي في جامعة جورج تاون، إنَّ اختناقات سلاسل التوريد في 2021، التي تسببت في ارتفاع تكاليف الشحن ستة أضعاف عن مستويات ما قبل كوفيد، زادت التضخم بأكثر من نقطتين مئويتين في 2022، وأضاف: "يمكن أن تكون تكاليف الشحن مؤشراً لارتفاع التضخم في المستقبل"، إذ تستغرق هذه التكاليف من 12 إلى 18 شهراً لينعكس أثرها على الاقتصاد، يظهر بحثه أنَّ زيادة تكاليف الشحن 20% ترفع التضخم 0.15 نقطة مئوية بعد عام. قال الخبير الاقتصادي إنَّه على الرغم من أنَّ معدلات الشحن الآن أقل مما كانت عليه خلال الجائحة؛ فإنَّ مثل هذه الزيادة يمكن أن تقوّض جهود الاحتياطي الفيدرالي لمواجهة التضخم، وينبغي عدم تجاهلها.
تطرف الطقس عالمياً
قالت زيرا تشنج، رئيسة استشارات مرونة الأعمال في شركة الشحن "إيه.بي. مولر-مايرسك" (A.P. Moller-Maersk)، إنَّ قيود الغاطس في قناة بنما حالياً تبدو مشابهة لعام 2019 عندما حدث الجفاف الخطير الأخير، لكن لم يتضح بعد ما إذا كان سيزداد سوءاً أو يظل كما هو أو يتحسن في الأشهر القليلة المقبلة، وأضافت: "بالنسبة لي يبدو النمط (الطقس) مختلفاً".
وقالت تشنج إنَّ أنماط الطقس في جميع أنحاء العالم متطرفة، وأضافت: "إذا وُضعت مستويات المياه المنخفضة في بنما في الصورة الكبيرة، فسينُظر إليها في الواقع على أنَّها مجرد إشارة واحدة وربما ترون المزيد منها على الصعيد العالمي في الفترة المقبلة".
تشير تشنج إلى نهر الراين في أوروبا، حيث تسبب ارتفاع درجات الحرارة وندرة هطول الأمطار العام الماضي في تأخير شحن السلع وزيادة تكاليفها، وقالت إنَّ مناطق جنوب شرق آسيا شهدت بالفعل هذا العام أشد أيامها حرارة على الإطلاق، كما أنَّ انخفاض مستويات المياه في نهر اليانغتسي، وهو طريق شحن داخلي حيوي في الصين، يعوق الشحن.
يقول العلماء إنَّ تغير المناخ يتسبب في أن تشهد بنما طقساً شديد الحرارة وآخر أكثر اعتدالاً، ووفقاً للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة؛ كانت موجات الحرارة أطول 2.6 من الأيام في المتوسط بين 2016 و2020 عن الفترة من 1985 إلى 2005، ومع ذلك؛ يقولون إنَّه من غير الواضح ما إذا كانت حالات الجفاف في بنما ستزداد سوءاً، لأنَّها عالقة بين الظروف المناخية في منطقة البحر الكاريبي، التي تجلب المزيد من الأمطار، والمحيط الهادئ، التي تكون أكثر جفافاً.
حرب أوكرانيا
قناة بنما؛ هي إحدى أسرع الطرق وأقلها كلفة لنقل الحبوب والسلع الزراعية الأخرى، وكذلك السلع الاستهلاكية من الصين وغيرها من مراكز التصنيع الآسيوية، إلى موانئ الولايات المتحدة، ويمر نحو 5% من التجارة البحرية العالمية السنوية عبر أهوسة القناة، ومن بين مستخدمي سفن "نيو باناماكس" في عبور القناة في أبريل؛ شكلت سفن الحاويات 45% من حركة المرور، تلتها ناقلات غاز البترول المسال، فناقلات المواد السائبة الجافة، ثم الغاز الطبيعي المسال، ولا تتأثر ناقلات الغاز الطبيعي المسال بالتغييرات الأخيرة في طول الغاطس، لأنَّه في هذه الناقلات لا يتجاوز عادة 37 قدماً، وفقاً للمتحدث باسم القناة أوكتافيو كوليندريس، لكن أي اختناقات هي مدعاة للقلق مع توقُّعات بزيادة صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال في السنوات الخمس المقبلة.
وبسبب الحرب في أوكرانيا؛ تراجعت شحنات الغاز الطبيعي المسال التي تمر عادة عبر القناة إلى آسيا، حيث حوّل المنتجون الإمدادات إلى أوروبا لتحل محل الغاز الروسي، لكنَّ فريد إتش هاتشيسون، الرئيس التنفيذي لشركة "إل إن جي ألايز" (LNG Allies)، وهي مجموعة تجارية أمريكية تعمل في الصناعة، قال إنَّ القناة مهمة على المدى الطويل مع زيادة الإنتاج، ودعت المجموعة القناة لبدء جهود التوسيع.