رئيس التحرير
أحمد ناصف
رئيس التحرير
أحمد ناصف

ألمانيا رائدة صناعة الماكينات التاريخية تبحث عن مكان في تكنولوجيا المستقبل

نشر
صنع في ألمانيا
صنع في ألمانيا

بعد سنوات من البحث داخل مختبر في ثمانينات القرن الماضي في بافاريا، توصل كارلهاينز براندنبورج طالب الهندسة الكهربائية وأستاذه، إلى ترتيب اجتماع لعرض ابتكار واعد.

وأرسلت شركة "جرونديج" أكبر شركة لتصنيع أجهزة الراديو في أوروبا في ذلك الوقت مهندسين لحضور العرض التوضيحي داخل معمل الصوت الصغير بالجامعة في ضواحي نورمبرج، ورغم إعجابهم إلى حد ما بالعرض لم يتناولوا مسألة تمويل البحث، وقالوا إنهم لا يروا إمكانية لاستخدامه.

يذكر أن براندنبورج قولهم: "عد إلينا بمجرد أن يعمل بشكل جيد بما فيه الكفاية حتى لا يمكن للمستمعين أصحاب الخبرة تمييزها عن الإشارة الأصلية".

واستطاعت "مايكروسوفت" ترخيص ابتكار ملف MP3 الصوتي بعد ذلك ليصبح معيارا ذهبيا للموسيقى الرقمية اعتمدت عليه "أبل" لإنتاج "الأيبود" وربح براندنبورج ومساعدوه في مؤسسة "فراونهوفرت" الملايين من وراء الابتكار، بينما أعلنت "جرونديج" الرائدة في مجال التكنولوجيا فترة ما بعد الحرب إفلاسها في عام 2003.

ايبود

وتلخص الحكاية التحذيرية الطريقة التي تخلفت بها ألمانيا التي اخترعت السيارات، والأسبرين وشريحة تخزين البيانات SIM عن منافسيها عالميا في الاستفادة من الابتكارات، وبناء شركات عملاقة رائدة بمجال التكنولوجيا على مستوى العالم.

فبينما تمتلك الولايات المتحدة "أبل" و"أمازون" والصين لديها مجموعة "علي بابا" و"تينسينت هولدنج" لم تنجح ألمانيا في تأسيس شركة تكنولوجيا مهيمنة عالميا منذ تأسيسها شركة البرمجيات "إس إيه بي" SAP قبل نحو نصف قرن.

ولا يعني ذلك انعدام الثقة في البلد الذي يترادف اسمه مع الهندسة الراقية؛ لكنها مسؤولية اقتصادية وسياسية في وقت تعتمد فيه الولايات المتحدة والصين على التكنولوجيا كعامل حسم لتقاسم النفوذ عالميا.

ويعكس ذلك حجم التحدي الذي تواجهه حكومة برلين الجديدة، وضرورة تركيزها على بث روح الابتكار وريادة الأعمال من جديد بهدف الانتقال من صناعة الآلات إلى الصناعات المستقبلية؛ حيث يمكن لألمانيا في حالة استجابتها بالشكل المناسب أن تقود أوروبا لشغل مكانة عالمية جديدة، وليس كما يحذر قادة الأعمال من تحول ألمانيا لمتحف صناعي يزوره السياح الصينيون والأمريكيون.

وقال رافائيل لاجونا دي لا فيرا المدير المؤسس لـ "الوكالة الفيدرالية للابتكار التغييري" – المعروفة في ألمانيا باسم "سبريند" ومقرها لايبزيج وتوفر للمبتكرين الصغار طريقة سهلة لتوسيع نطاق ما يقومون به وتحقيق نجاحات: "لم تفقد ألمانيا سحرها عندما يتعلق الأمر بالعلوم، ولكن عندما تريد تحويل الاختراعات العظيمة لمنتجات فإننا نتخلف عن الركب".

الوكالة الفيدرالية للابتكار التغييري

ودعا المستشار أولاف شولتز إلى بدء عقد من الاستثمار لتحديث الاقتصاد مع التركيز على الرقمنة والتكنولوجيا الخضراء. 

وقالت أحزاب الائتلاف الثلاثة في برنامجها لتشكيل الحكومة الذي تم كشف النقاب عنه في 24 نوفمبر: "لا يمكننا الصمود طويلاً".

وترى الأحزاب بغض النظر عن طريقتها في القياس، أن ألمانيا متخلفة من الناحية التقنية. 

واحتلت ألمانيا المرتبة 11 من أصل 27 دولة عضو في "الاتحاد الأوروبي" على مؤشر "الاقتصاد والمجتمع الرقمي" السنوي للعام 2021؛ حيث تحقق المؤسسات والشركات العامة الألمانية نتائج سيئة بشكل خاص في استخدام التكنولوجيا الرقمية، حيث لا يصدر فواتير إلكترونية سوى 18% فقط من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تمثل العمود الفقري للاقتصاد.

ويحمل مجال المدفوعات الإلكترونية في ألمانيا، فرصاً كبيرة للنمو، حيث تقول شركة "ماكينزي" للاستشارات إن متوسط ​​نصيب الفرد من المعاملات بالبطاقة يقل عن نصف نصيبه في بريطانيا؛ ولكن تلك الحقائق لا يمكنها تجاهل تناقضها مع السمات الثقافية العميقة التي تعيق البلاد عن تحقيق النمو في تلك المجالات، وهي النفور من المخاطرة وضعف تطوير المنتجات وتسويقها.

فعلى سبيل المثال رفضت "ستادي في زد" StudiVZ الشبكة الاجتماعية الرائدة بين الطلاب الألمان منذ عقد ونصف عرضا من "فيسبوك" لشراء حصة تبلغ قيمتها اليوم المليارات، وقد انتهى الأمر بالشركة المسؤولة عن الموقع بطلب الإفلاس.

ويتحدث السياسيون ورجال الأعمال عن أن السبب في ذلك التراجع هو الميل للاعتماد على أمجاد النجاح في الماضي؛ وهو ما يحد من الرضا عن النفس.

كريستيان ميلي رئيس "اتحاد الشركات الناشئة الألمانية" في برلين قال: "كانت ألمانيا في وضع جيد للغاية في القرن الماضي، واشترى الجميع من كافة أنحاء العالم منتجاتها عالية الجودة تحت شعار صنع في ألمانيا، وذلك ربما لأننا كنا متمسكين جداً ببناء منتجات عالية الجودة لا تتعطل لذلك فالمخاطرة لم تكن جزءا من حمضنا النووي الثقافي".

صنع في ألمانيا

ولا يمكن لأحد التشكيك في تاريخ صناعة السيارات الألمانية بسياراتها الفاخرة "بي إم دبليو" و"بورش" وشركة "دايملر" التي صنعت "مرسيدس" و"أودي" التابعة لمجموعة "فولكس واجن"، والتي تحتفل هذا العام بذكرى مرور 50 عاما على إطلاق شعارها المشهور عالميا "Vorsprung durch Technik" ويعني التقدم عن طريق التكنولوجيا. 

ومع ذلك تلاحق الريادة العالمية الاقتصادية والتكنولوجية الألمانية شركات مثل "تسلا" فيما يتعلق بصناعة السيارات الكهربائية.

وتبلغ القيمة السوقية لشركة "تسلا" أكثر من 930 مليار دولار ما يعادل 7 أضعاف قيمة "فولكس واجن" رغم بيع المنافس الأمريكي لعدد قليل فقط من السيارات.

وبما أن تشخيص المشكلة يمثل الخطوة الأولى للتغيير، تصمم حكومة شولتز على التحديث بعد 16 عاماً من حكم أنجيلا ميركل. 

ومن المستبعد، أن تركز حكومة بقيادة " الديمقراطي الاشتراكي" الاستجابة لشكاوى الأعمال الدائمة بشأن الضرائب المرتفعة في ألمانيا وتكاليف العمالة كما كان الأمر عليه في عهد ميركل، لكن التحالف يخطط لتقديم حوافز مالية لجذب المواهب وإنشاء مراكز للابتكار والأبحاث الجديدة في تكرار لتجربة بريطانيا بشأن "كامبريدج" و"أكسفورد".

وتعد مراكز التكنولوجيا البحرية في مدينتي كيل وبريمن لدراسة علوم المناخ والأرض حول بوتسدام من المناطق المرشحة وكذلك ما يسمى وادي "إم أر إن ايه" mRNA للتكنولوجيا الحيوية في ماينز موطن شركة "بيونتيك" التي تعد مصدر فخر وطني بعد تطويرها لواحد من أولى لقاحات كوفيد19 الناجحة بالتعاون مع شركة "فايزر".

وهناك أيضا مجال للبناء على مركز تصنيع الرقائق القائم حاليا حول دريسدن والذي يطلق عليه "وادي ساكسونيا للسيليكون".

وقالت ماريا ليبتين رئيسة "مجلس البحوث الأوروبية" الذي دعم أوغور شاهين مؤسس "بيونتيك" بمنحة كبيرة في "جامعة يوهان جوتنبرج" في ماينز: "أعتقد أن الكثير قد تغير وهناك قدر كبير من المرونة في الأوساط الأكاديمية والصناعية في ألمانيا وأوروبا".

حتى شركة "بيونتيك" البالغة قيمتها 69 مليار دولار والتي استثمر فيها الزوجان أوجور شاهين وأوزلم توراجي أبحاثهما الطبية اختارت الإدراج في "بورصة ناسداك" في نيويورك، حيث تلقى موجة إدراج شركات التكنولوجيا الحيوية دعما من المستثمرين الأثرياء.

 

جذب الشركات الناشئة

يهدف التحالف الألماني إلى جعل ألمانيا بصدارة أماكن جذب الشركات الناشئة في أوروبا؛ وفقا لنص الاتفاقية التي تظهر فيها بصمة "الحزب الديمقراطي الحر" المؤيد للأعمال التجارية، على أن تكون هناك وكالة جديدة للابتكار تركز على مشاركة البيانات بين الجامعات ومعاهد البحث والمساعدة في تسويق الأفكار والتخطيط لتسهيل جذب الشركات الناشئة لرأس المال الحكومي والخاص في جميع مراحل النمو، بما في ذلك المزيد من الدعم من "بنك التنمية الحكومي" KfW.

وتنص الاتفاقية أيضا على دعم الطروحات العامة الأولية وزيادات رؤوس أموال الشركات بأسهم مزدوجة الفئة، خاصة للشركات الصغيرة والمتوسطة في محاولة لجذب عمليات الإدراج إلى فرانكفورت بدلاً من نيويورك ولندن. كما سيتم السماح للمرة الأولى لـ "صندوق التقاعد الألماني" الذي يدير أصولاً بقيمة 400 مليار دولار بالاستثمار في أسواق رأس المال؛ بما في ذلك الأسهم والسندات وأسهم الشركات الخاصة والشركات الناشئة.

وقال ماريو براندنبورج عضو "البوندستاج" وخبير سياسات التكنولوجيا لدى الحزب الديمقراطي الحر: "إذا كنت ترغب في تأسيس شركة ناشئة فلابد لنا أن نتأكد من أنك لست بحاجة للذهاب إلى الولايات المتحدة للحصول على التمويل وسيكون من الأفضل أن نؤكد أننا نؤمن بالمستقبل، وأن نستثمر معاشاتنا التقاعدية في الشباب الذين يرغبون في النمو".

 

التكنولوجيا التغييرية

المال من العوامل المهمة، ولكن التنبؤ بالجيل التالي من التكنولوجيا التغييرية ليس بالأمر السهل، قد يكون الابتكار المتعلق بالمناخ أحد مجالات النمو المحتملة لألمانيا؛ بعد أن رفض العديد من المستثمرين دعم تقنية رونالد دامان التي تستخدم فقاعات صغيرة لإزالة المواد البلاستيكية الدقيقة من الأنهار والبحيرات والمحيطات؛ حيث تدخل "الوكالة الفيدرالية للابتكار التغييري" في التمويل.

ويتطلع دامان لعولمة التكنولوجيا حيث قال: "لأول مرة في حياتي لدي الفرصة لتطوير شيء يمكن أن يحدث فرقا ولا ينتابني القلق بشأن المال".

وشهدت ألمانيا طفرة في مجال الشركات الناشئة حديثاً، حيث قامت المجتمعات النابضة بالحياة في برلين وميونيخ بتأسيس 20 شركة ناشئة بقيمة تخطت المليار دولار "يونيكورن" وفقا لبيانات "بيتش بوك" في ديسمبر 2021. ولكن الرقم يبقى ضئيلاً على الرغم من مضاعفة عدد شركات اليونيكورن الألمانية على أساس سنوي، مقارنة بتأسيس 510 شركات في الولايات المتحدة و176 في الصين و31 في بريطانيا.

وجرى إدراج العديد من شركات التكنولوجيا الرائدة في مؤشر "داكس" DAX هذا العام، ومن بينها "كلون زينلاند" للتجزئة عبر الإنترنت، ومزود الوجبات "هالو فريش" وكلاهما مدعوم من قبل حاضنات التكنولوجيا الألمانية لأصحابها الأخوة ساموير.

 

الذكاء الاصطناعي

رغم الانتقادات التي تم توجيهها لحكومة ميركل لكنها لم تكن مكتوفة الأيدي بالكامل؛ حيث قدمت ميركل ووزير المالية آنذاك شولتز حزمة تحفيز للوباء بقيمة 130 مليار يورو (146 مليار دولار) في يونيو 2020؛ ما يمثل دعماً من برلين لنشأة صناعات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتقنيات الهيدروجين، ربما يجني شولتز الثمار مثلما استفادت ميركل من إصلاحات الرفاه والعمل التي أجراها سلفها.

وتعتقد ميلي من "اتحاد الشركات الناشئة" أن ألمانيا يمكنها "القيام بشيء مذهل" وبدء ريادة الأعمال حيث يعتمد الأمر فقط على ما إذا كان القادة السياسيون مستعدين للوفاء بوعودهم. وقال ميلي: "يبدو أن الأحزاب الثلاثة اتفقت على هدف تغيير التوجهات، وسيكون من المهم أن نرى انعكاس ذلك في الواقع والممارسة العملية".

وبالعودة إلى بافاريا، يواصل كارلهاينز براندنبورج، العمل مع فريقه الصغير هناك على ابتكار مصادر صوت افتراضية في أحدث شركاته الناشئة "براندنبورج لابس".

وقال براندنبورج عن آفاق الابتكار: "نعم هناك مشاكل لكني متفائل جداً عندما أرى هؤلاء الشباب المتفوقين". حيث أخبرهم أن تحقيق اليونيكورن قاب قوسين أو أدنى.

عاجل