رئيس التحرير
أحمد ناصف
رئيس التحرير
أحمد ناصف

«نوكيم».. قصة شركة نووية روسية لا تستطيع أوروبا العيش بدونها

نشر
مستقبل وطن نيوز

يشبه إبطال قلب محطة طاقة نووية، عملية جراحية لا يقدر على تنفيذها سوى قلة من المتخصصين.

تبدأ العملية عبر إطلاق روبوتات شعلة البلازما في حوض فارغ محاط بجدران خرسانية سميكة، ومن هنا تبدأ الآلات المتحكم فيها عن بعد القطع دائرياً وكأنها تُقطِّع شرائح أناناس عبر جسم من الصلب وزنه 600 طن ويحتوي إشعاعات تولدت عبر عقود من فصل الذرات، ثم تُقطع هذه الحلقات إلى مكعبات طولها متر وتُنقل عبر قافلة مؤمنة إلى مستودعات النفايات المشعة حيث تُترك لتبرد إلى أجل غير مسمى.

خلف الكواليس، يجلس عدد كبير من مهندسي الطاقة النووية وخبراء السلامة من الإشعاع وأيضاً المشرعين الحكوميين الذين يراقبون العملية التي يمكن أن تصل تكلفتها إلى مليار دولار ويتطلب التخطيط لها وتنفيذها سنوات. يقول مايكل بيتشلر، من شركة "يونيبر" والذي يشرف على تفكيك محطة الطاقة النووية السويدية "بارشبيك" (Barsebaeck)، إن الخبرة المطلوبة لتنفيذ هذه العملية دون أخطاء هو سبب وجود عدد يُعد على الأصابع من اللاعبين في مجال إيقاف تشغيل المنشآت عالية الإشعاع.

من بين الشركات الأقدم والأكثر خبرة في هذا المجال هي الشركة الألمانية، "نوكيم تكنولوجيز إنجينيرينغ سيرفيسز" (Nukem Technologies Engineering Services)، والتي قدّمت لعقود خدماتها الفريدة في آسيا وأفريقيا وعبر أوروبا. ساعد مهندسو "نوكيم" في احتواء الإشعاع من المفاعلات المدمَرة في تشيرنوبل وفوكوشيما، وفي فرنسا، ابتكرت الشركة طرقاً لمعالجة النفايات من المفاعل الدولي الحراري النووي التجريبي "إيتير".

في ظل تنبؤ الباحثين بتطور أعمال تفكيك محطات الطاقة النووية المتقادمة إلى سوق عالمية قيمتها 125 مليار دولار في المستقبل القريب، يُفترض أن تكون "نوكيم" في وضع مثالي للاستفادة من هذه اللحظة.

لكن هناك عقبة واحدة وهي أن الشركة مملوكة بالكامل إلى "روساتوم كورب" (Rosatom Corp)، العملاقة النووية التي يسيطر عليها الكرملين، ما يضعها في قلب نزاع غير مريح.

كانت ألمانيا واضحة في حث الدول الأوروبية على التوقف عن استيراد الوقود النووي من "روساتوم"، وهو سلعة شديدة التخصص تستخدم في محطات توليد الكهرباء، وتُعتبر "روساتوم" أكبر مصدِّر له في العالم، إلا أن السلطات لا تريد منع "نوكيم" من ممارسة الأعمال في ألمانيا، وفق ثلاثة مسؤولين حكوميين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم أثناء مناقشة مداولات سرية، وقالوا إنه نظراً لعدم تطبيق عقوبات عليها، فإن التوقف عن التعامل معها من شأنه انتهاك قوانين المنافسة الأوروبية.

"نوكيم"، الواقعة في التلال المتدرجة والبساتين شرق فرانكفورت مباشرة، هي لاعبة متخصصة ضمن إمبراطورية "روساتوم" العالمية، وفي الوقت ذاته، هي تكشف خطوط الصدع في نهج الاتحاد الأوروبي تجاه الطاقة النووية، فعلى عكس روسيا، التي عززت خبرتها في جميع العمليات الصناعية المطلوبة لتحويل وتخصيب ذرات اليورانيوم إلى أشكال قابلة للاستخدام في توليد الطاقة، فإن التطوير الفوضوي لأوروبا للتكنولوجيا النووية ترك الدول معتمدة على المزودين الأجانب لملء الفجوات في الإنتاج والخدمات.

يقدّر الخبراء أن يستغرق الاتحاد الأوروبي أربع أو خمس سنوات على الأقل ليتمكن من مضاهاة قدرة "روساتوم" في صناعة الوقود، وحتى إذا تم تسريع العملية، فسيظل بحاجة لوقت أطول أيضاً لتحقيق نفس نجاحها العالمي وتوفير مجموعة مماثلة من خدماتها.

تزايد الضغط لعزل "روساتوم" عن سلاسل التوريد الأوروبية بعد استيلاء القوات الروسية على أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا خارج مدينة زابوريزهزهيا الأوكرانية وإرسال مهندسين من الشركة لتشغيلها. وتقول داريا دولزيكوفا، الباحثة في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، إن حقيقة عدم فرض عقوبات على "روساتوم" أو تابعتها "نوكيم"، "يُفترض أن تثير بعض الأسئلة الجادة".

لكن بعد مرور أكثر من عام على الحرب، ما يزال قرار الاستمرار في التعامل مع شركة الطاقة العملاقة من عدمه متروكاً للشركات الفردية. حتى الآن، يسير الكثير كالمعتاد، وسجلت "روساتوم" نمواً في الصادرات بتجاوز 20% في العام الذي أعقب غزو روسيا لأوكرانيا.

على عكس مصادرة ألمانيا لأصول التخزين والتكرير الروسية بعد الحرب، لا تمتلك "نوكيم" الكثير من أصول البنية التحتية الثابتة لملاحقتها، وإذا فُرضت عقوبات، فببساطة قد تغلق "روساتوم" الشركة أو تنقل مقراتها إلى مكان أكثر صداقة.

الآن، "نوكيم" عالقة في معضلة غريبة نوعاً ما إذ يواجه العملاء المهتمون بالاستفادة من خبرتها اختيار العمل مع شركة يسيطر عليها الكرملين أو لا. خبرة الشركة ذات قيمة خاصة لأنه يمكن لمهندسيها البالغ عددهم 120 مهندساً، ومعظمهم من الألمان، العمل عبر سلسلة التوريد النووية، وهي ميزة كبيرة في ضوء حقيقة أن المهندسين النوويين الأكثر شباباً يدرسون كيفية بناء منشآت جديدة وليس هدم المنشآت الموجودة. حذّرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا من الندرة الشديدة للعاملين في مجال تفكيك المحطات النووية.

في هذا الصدد، يقول مارك هيبس، المحلل في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، والذي يتتبع الشركة منذ ثلاثة عقود وأكثر: "تسيطر نوكيم في أوروبا على قدر كبير من المعرفة".

لكن حتى بدون عقوبات، توقفت الأسواق التقليدية مثل ليتوانيا وفنلندا عن العمل مع "نوكيم" و"روساتوم"، على التوالي، أما دول أخرى، مثل جمهورية التشيك وسلوفاكيا وبلغاريا، تتجه لتنويع مصادر إمداداتها بعيداً عن الموردين الروس. على المستوى اليومي، باتت ممارسة الأعمال أكثر صعوبة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، حسبما قال الرئيس التنفيذي لشركة "نوكيم"، توماس سيبولت.

قال سيبولت إن تحويلات الأموال تستغرق وقتاً أطول، وكذلك تأمين التراخيص اللازمة لشحن التقنيات عبر الحدود، أيضاً يتردد بعض العملاء في توقيع العقود. قال بوريس شوخت، الرئيس التنفيذي لاتحاد الوقود "يورنكو" (Urenco): "تم تعليق ترتيب مشاورات مع الشركة مؤقتاً ثم إلغاؤه بعد بدء الصراع في أوكرانيا"، فيما قال سيبولت إنه نظراً للوضع السياسي، فإن تطور الشركة أكثر أصبح غير واضح.

لتجنب استمرار التدهور، قال سيبولت: "المالك يحاول بيع نوكيم إلى مستثمر استراتيجي بحلول منتصف العام"، وأضافت دون التوسع حول كيف يمكن لمشترٍ أن يتجنب العقوبات المالية للاتحاد الأوروبي لشراء حصة بالشركة: "نجري بالفعل محادثات مع أطراف مهتمة".

لكن، إذا لم تتحقق صفقة، فإن مستقبل الشركة قد يقع خارج أوروبا. وبينما قد تخنق العقوبات على "روساتوم" و"نوكيم" الإمدادات الفورية للوقود والخدمات داخل كتلة الاتحاد الأوروبي، فسيكون تنفيذها صعباً في أكبر أسواق النمو للشركة. وبالفعل، تبني "روساتوم" محطات نووية جديدة في بنغلاديش والصين ومصر وتركيا، بجانب عشرات عقود التوريد الأخرى قيد التفاوض. يُحتمل أن تضمن هذه الصفقات تدفقات نقدية ونفوذ سياسي للشركة لعقود قادمة.

حالياً على الأقل، تبني "نوكيم" بعض مشروعاتها الجديدة في أماكن أبعد، ففي محطة توليد الكهرباء بالطاقة النووية "شوداباو" (Xudabao) شمال شرق بكين، يصمم متخصصو "نوكيم" حالياً مركزاً لمعالجة النفايات لخدمة مفاعلين جديدين لـ"روساتوم" من المقرر أن يبدآ الإنتاج في 2028.

أعلنت "نوكيم" الشهر الماضي: "لقد وقّعنا العقود بالفعل". ستبدأ الشركة الألمانية التابعة لـ"روساتوم" شحن المعدات إلى الصين العام المقبل.

عاجل