رغم علامات الركود.. الأسواق في أمريكا تتشبث بآمال النجاة من أزمة البنوك
خاضت البنوك أسبوعين قاسيين، غالباً ما تبدّدت معهما آمال الأسواق في إمكانية تجنب حدوث الركود بالولايات المتحدة. لكن القراءة الدقيقة لحال الأصول المتنوعة لا تزال تظهر عدم اقتناع المستثمرين بأن الضغط الحالي ينذر بأزمة مالية حقيقية.
من الأسهم إلى الائتمان إلى معدلات التضخم والدولار، هناك رسالة مفادها أن التشاؤم المتزايد بشأن النمو الاقتصادي لم يتحول بعد إلى حالة ذعر من الانهيار الشامل.
وأظهرت تحركات، مثل الزيادة بـنسبة 5.8% في مؤشر "ناسداك 100" هذا الأسبوع، الحالة التي أصابت مستثمرين أربكهم فشل ثلاثة بنوك أميركية وترنُّح "كريدي سويس جروب"، بينما يقاومون الاستسلام لمعنويات يسيطر عليها بيع كل شيء، والتي سادت خلال الكوارث مثل الأزمة المالية في عام 2008.
قال مات مالي، كبير استراتيجيي السوق في "ميلر تاباك+" (Miller Tabak + Co): "تهيمن على الجميع مشاعر تشاؤمية، لكنهم لا يتصرفون بهذه الطريقة. تشير السوق بالتأكيد إلى أننا سنتجنب اندلاع أزمة شاملة".
بالطبع، فإن الأمور تتغير، إذ أن المزيد من حالات فشل البنوك في نهاية هذا الأسبوع ستغير الحسابات، واستخلاص استنتاج قاطع من أي موقف بمرو الوقت أمر محفوف بالمخاطر. لا تظهر الأزمات بشكل مفاجئ. فقد يشكّل الهدوء الآن مقدمات لكارثة. على الرغم من ذلك، فإن خلفية السوق لا يمكن تمييزها بعد مقارنة باللحظات الأخرى التي لم تنتهِ بكوارث.
بالنظر إلى الصورة بشكل أوسع، فقد قفز هذا الأسبوع المؤشر العالمي لمخاطر السوق عبر الأصول الذي يصدره "بنك أوف أميركا" (Bank of America Corp) إلى أعلى مستوى منذ أكتوبر، بينما استقر دون المستويات التي سجّلها خلال الجائحة وفي عام 2008. يقيس المؤشر مستويات الإجهاد عبر الأسواق المالية، والتي تبرز تقلبات الأسعار في المستقبل ضمن أسواق الخيارات في الأسهم العالمية وأسعار الفائدة والعملات والسلع.
قالت ليزا إريكسون، رئيسة مجموعة الأسواق العامة في "يو إس بنك ويلث مانجمنت" (US Bank Wealth Management)، في تصريحات عبر الهاتف: "من غير المستغرب في ظل كل هذه الأحداث الدراماتيكية أننا نشهد قدراً كبيراً من حركة الأسعار. الأسواق تعكس حقاً مستوى كبيراً من عدم اليقين، ونرى ذلك فقط من خلال التغيرات السريعة في الأسعار".
انخفاض عوائد سندات الخزانة إنذار بالركود
يشكّل انخفاض عائدات سندات الخزانة العلامة الأكثر دلالة على حدوث الركود على امتداد الأسواق، فالمزيد من التراجع يوم الجمعة الماضي جاء مدفوعاً بالسندات ذات الأجل القصير، والتي خفضت منحنى العائد بأكمله إلى ما دون 4%، حيث أدى الاضطراب المصرفي إلى ترجيح المتداولين حدوث المزيد من عمليات رفع أسعار الفائدة الفيدرالية. لكن لا يمكن القول إن كل أداة دخل ثابت تنذر بكارثة.
انخفضت أسعار الفائدة على عوائد السندات لأجل عامين، وهو مؤشر يمكن من خلاله أن يتوقع متداولو السندات موقف التضخم في غضون عامين، خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد أن وصلت إلى حوالي 3.4% في أوائل شهر مارس، لكنها لا تزال تحوم بالقرب من 2.5%، وهو ما تراه "داتاتريك ريسيرش" (DataTrek Research) أنه دليل على أن الاقتصاد سيتجنب أسوأ النتائج.
كتب نيكولاس كولاس، المؤسس المشارك "داتاتريك ريسيرش"، في مذكرة يوم الجمعة الماضي: "ينخفض التضخم دائماً في فترة الركود، وغالباً ما يكون ذلك سريعاً. لا تتوقع السوق حدوث ذلك في أي وقت قريب".
بالنسبة إلى سوق الائتمان، فقد اتسعت هوامش سندات الشركات الأميركية ذات التصنيف الاستثماري إلى أعلى مستوى لها في خمسة أشهر، حيث وصل مؤشر "بلومبرج" لسندات الشركات من الدرجة الاستثمارية في الولايات المتحدة إلى 163 نقطة أساس يوم الأربعاء الماضي.
في حين أن هذا الأمر يشير إلى تزايد القلق بشأن التخلف عن السداد، فقد تجاوزت الهوامش 600 نقطة خلال الأزمة المالية العالمية وبلغت ذروتها فوق 370 نقطة في الأيام الأولى للجائحة. على الرغم من اتساع هوامش الأسعار، إلا أنها كانت لاحقة في المستويات الضيّقة فعلياً، وهو ما يحدث في الولايات المتحدة فقط، بحسب الاستراتيجيين في "سانفورد سي بيرنشتاين" (Sanford C. Bernstein) بقيادة سارة مكارثي، التي قالت إن عدم تحرك الهوامش بالكاد في أوروبا يعد "علامة مطمئنة" على أن هذه المشكلات "محلية".
أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى حدوث أزمة في الأصول، والتي أصبحت الآن معرضة لخطر التحول إلى أزمة ائتمانية، بحسب ما كتب الاستراتيجيون في "تي إس لومبارد" (TS Lombard) بقيادة أندريا سيسيون. لكن على عكس ما حدث في عام 2008، يوجد اليوم ما يطلق عليه "خصائص الاستقرار الذاتي"، حيث يؤدي ذعر المستثمرين إلى زيادة أسعار السندات الحكومية، وبالتالي تقليل حجم المشكلة التي تسببت في حالة من الذعر في المقام الأول.
إشارات مختلطة من الأسهم
كالعادة، فإن الأسهم ترسل مجموعة متنوعة من الإشارات، بعضها مقلق للغاية، مثل عمليات بيع أسهم البنوك التي استمرت حتى مع بدء عمليات الإنقاذ المختلفة.
وعلى المستوى الأوسع، لا تزال التحركات ضئيلة، وأقل بكثير من أسوأ تقلبات العام الماضي، كما يتضح من التقلبات الهبوطية. على الرغم من أن اضطراب الأسهم المسجّل في مؤشر التقلب "سي بي أو إي" (CBOE) سرعان ما ارتفع فوق مستوى 30 نقطة في الأيام التي أعقبت انهيار بنك "ليمان براذرز" (Lehman Brothers) عام 2008، وظل عند هذا المستوى لمدة ثمانية أشهر قبل أن يبلغ ذروته فوق مستوى 80 نقطة، إلا أنه استقر الآن عند 25. وأمضى فترة زمنية كبيرة فوق مستوى 30 نقطة خلال عام 2022.
ولا تزال مؤشرات الإجهاد الشديد محدودة، إذ لم تنتشر حالات البيع في الأسواق، ولا تزال هناك عناصر ضئيلة من السوق تتمتع بالمرونة، كما أن التغيرات الدورية مستقرة بشكل جيد. ومن المؤكد أن حجم التقلبات قد ارتفع، لكن جميع التغيرات التي تحدث في فئات الأصول المختلفة "طبيعية"، كما قال دان سوزوكي، نائب كبير مسؤولي الاستثمار في "ريتشارد بيرنشتاين أدفيزرز" (Richard Bernstein Advisors)، خاصةً حين يقوم "الاحتياطي الفيدرالي" بمثل هذه الحملة المتشدّدة لرفع أسعار الفائدة.
يعد الهبوط في أسهم البنوك والطاقة بمثابة رهانات مباشرة على أن الاقتصاد سوف ينكمش. لكن قصة الأسهم حافلة بالفروقات الدقيقة، إذ أنه منذ انتشار الذعر بسبب السيولة المصرفية الأسبوع الماضي، ارتفعت أسهم العديد من الصناعات.
فقد حقق مؤشر "ناسداك 100" أفضل أسبوع له مقابل "ستاندرد أند بورز 500" منذ عام 2008، حيث أقبل المستثمرون على أسهم شركات التكنولوجيا الكبيرة ذات الميزانيات العمومية الضخمة بحثاً عن ملاذ. وانخفضت أسهم الشركات الصغيرة التي يتتبعها مؤشر "راسل 2000" بنسبة 2.6% خلال الأسبوع الماضي، بينما هوى مؤشر "ستوكس يوروب 600" بنسبة 3.9%.
يقول "مالي": "في حالة حدوث أزمة، ستنخفض جميع الأسهم. لذلك، بدلاً من رؤية سندات الخزانة وأسهم التكنولوجيا الكبيرة ترتفع سوياً، سنرى سندات الخزانة فقط ترتفع. بعبارة أخرى، إذا تراجعت أسهم مثل "إيه إيه بي إل" (AAPL) و"إم إس إف تي" (MSFT) و "إن في دي إيه" (NVDA) بشكل كبير، فهذا يشير إلى أن المستثمرين قد تحوّلوا من البحث عن الحماية، إلى البحث عن تجنب الخسائر".
فيما يتعلق بالعملات الأجنبية، فإن الأزمة لم تتسلل حتى الآن إلى الدولار الأميركي، والذي عادة ما يوفر ملاذاً آمناً للمستثمرين القلقين. انخفض مؤشر "بلومبرج" للدولار الفوري بنسبة 0.5% هذا الأسبوع، بينما سجّلت أقوى عملتين في دول "مجموعة العشر"، الكرونة السويدية والدولار الأسترالي، أقوى أداء، وهما من العملات الحساسة للتقلبات.
في ضوء كل هذا، دخل عالم المال حقبة جديدة منذ أن بدأت البنوك المركزية على مستوى العالم في تشديد السياسة النقدية لكبح التضخم. وقالت لويز جودي ويلمرينج، الشريكة في "كرو أدفيزرز" (Crewe Advisors)، إن الاضطرابات المصرفية هي أضرار ناجمة عن الأضرار التي تسبب "الاحتياطي الفيدرالي" نفسه في جزء كبير منها، وقد يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تتغير المعنويات، متوقّعة تقلبات متزايدة في الأشهر المقبلة.
صرحت عبر الهاتف، بالقول: "نحن جميعاً بحاجة فقط إلى التريث ومعرفة ما ستؤول إليه الأمور. لكن من المؤكد أن التقلبات تقف وراءها أسباب".