حكم الاكتفاء بنصوص القرآن والسنة دون الرجوع للعلماء
حكم الاكتفاء بنصوص القرآن والسنة دون الرجوع للعلماء، هو السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان، خاصة من الذين لا يعتقدون أن طلب الفتوى من العلماء سوف تغير شيئا؛ ما يجعل من معرفة حكم الاكتفاء بنصوص القرآن والسنة دون الرجوع للعلماء أمرا مهما.
وورد إلى دار الإفتاء سؤال حول حكم الاكتفاء بنصوص القرآن والسنة دون الرجوع للعلماء، وأجاب عنه الدكتور شوقي علام مفتي الديار المصرية عبر الموقع الرسمي لدار الإفتاء ليعرف الجميع حكم الاكتفاء بنصوص القرآن والسنة دون الرجوع للعلماء.
حكم الاكتفاء بنصوص القرآن والسنة دون الرجوع للعلماء
سائل يقول: هل يجوز للعاميّ أن يأخذ الأحكام الشرعية من نصوص القرآن والسنة مباشرة دون الرجوع إلى أهل العلم والعلماء؟
وأجاب المفتي قائلا: اتَّفقت آراء العلماء المحققين على أنَّه لا يجوز للعوام أخذ الأحكام الشرعية العملية مباشرة من الكتاب العزيز أو السنَّة المطهرة من غير الرجوع إلى أهل العلم؛ فالعامة ليس لهم إلَّا تقليد أهل العلم واتباعهم؛ إذ ليس لهم القدرة على استنباط الأحكام، ولا فَهْم النصوص، ولا يملكون أدوات القياس والاستدلال، وليس لهم نصيبٌ من فهم معاني اللغة إلى غير ذلك من أدوات الاجتهاد وفَهْم النصوص التي لا بُدَّ من تحصيلها.
وأضاف: شرَّف الله العلماء بوراثة الأنبياء، وأمدَّهم بالعناية، ويكفيهم شَرَفًا أنَّهم أهل خشيته من بين خلقه؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، وقَرَن تعالى شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته سبحانه؛ فقال: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]؛ يقول الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (4/ 41، ط. دار الكتب المصرية): [في هذه الآية دليل على فضل العلم، وشرف العلماء وفضلهم؛ فإنَّه لو كان أحدٌ أشرفَ من العلماء لقرنهم الله باسمه، واسم ملائكته؛ كما قرن اسم العلماء] اهـ.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ»، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» رواه الترمذي في "السنن".
ومن واسع رحمة الله تعالى أَنْ جعل كتابه العزيز تبيانًا لكل شيء؛ قال عز وجل: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]؛ حيث بيَّنَ بأجزل عبارة وأوجز بيان أحكام كل شيء تتعلَّق بشؤون الناس في معاشهم ومعادهم، ويأتي هذا البيان؛ إمَّا بإيراد نص قرآني حكيم إذا تعلَّق الأمر بالقواعد الكلية للعقائد والشرائع، وإمَّا بالإحالة على البيان النبوي الشريف في السنة المطهرة؛ قولًا وفعلًا وتقريرًا إذا ما احتاج الأمر إلى التفصيل؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، أو بالإِحالة على الإِجماع؛ حيث أوجب الأخذ به بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115]، أو بالإِحالة على الاجتهاد والقياس؛ استنادًا لقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]؛ فحُجّية العمل بالسنة، والإجماع، والقياس، والاجتهاد مذكورة كلها في القرآن الكريم لا يخرج عنها شيءٌ من أحكام الشريعة الإِسلامية.
والمخاطبون بأحكام الشرع الشريف لهم أحوالٌ، أشار إليها الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (3/ 313-315، ط. دار ابن الجوزي)، بقوله: [فإذًا المكلَّف بأحكامها لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: أحدها: أن يكون مجتهدًا فيها، فحكمه ما أدَّاه إليه اجتهاده فيها؛ لأنَّ اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنَّما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع، والأولى بأدلة الشريعة.. والثاني: أن يكون مقلِّدًا صِرْفًا خليًّا من العلم الحاكم جملة؛ فلا بدَّ له من قائد يقوده، وحاكم يحكم عليه، وعالم يقتدي به.. والثالث: أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين، لكنه يفهم الدليل وموقعه، ويصلح فهمه للترجيح بالمرجِّحَات المعتبرة في تحقيق المناط ونحوه، فلا يخلو أن يُعتبر ترجيحه ونظره، أو لا؟ فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه، وإن لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى درجة العامي] اهـ بتصرف.
ويقول الإمام ابن رشد في "الضروري في أصول الفقه" (ص: 143-144، ط. دار الغرب الإسلامي): [النَّاس لا يخلون من ثلاثة أقسام: إمَّا أن يكونوا كلهم مجتهدين، وهذا محال وقوعه والتكليف به؛ لأنَّه كان يؤدِّي إلى انقطاع المعايش، لو كان ممكنًا أن يحصل لكل أحد رتبة الاجتهاد، وإمَّا أن تُفْقَد في جميعهم شروط الاجتهاد، وهذا أيضًا ممتنع؛ لأنَّه كان يؤدِّي إلى إهمال أكثر الأحكام، إذ أكثر الفرائض والسنن إنَّما يقوم بفرض معرفتها وتعليمها للناس المجتهدون، وإمَّا أن يوجد في النّاس الصنفان جميعًا، وهو أن تكون فيهم طائفة تقوم للجمهور بضبط الفرائض والسنن، وجعلها عليهم، وأخذهم بها، واستنباط ما شأنه أن يستنبط منها في وقتٍ وقتٍ ونازلةٍ نازلةٍ. وتكون فيهم طائفة أخرى، وهم العوام، شأنهم تقليد هؤلاء لحسن الثقة بهم، وغلبة الظن في صدقهم.. فقد تبيَّن من هذا أن النَّاس صنفان: صنف فرضه التقليد وهم العوام الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد التي حُدِّدت فيما قبل، وصنف ثان وهم المجتهدون الذين كملت لهم شروط الاجتهاد] اهـ بتصرف.
وبهذا يتبين أنَّ اختلاف الأفهام والمدارك؛ أدَّى إلى وجود طائفة من المكلَّفين تُسَمَّى بالعوام أو المقلدين ليس لديهم القدرة على الاجتهاد ولا يملكون أدواته؛ ومِن ثَمَّ لا يتصور تكليفهم بالاجتهاد لأنَّهم لا يطيقونه؛ يقول الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (2/ 133، ط. دار ابن الجوزي): [لا سبيل للعاميِّ إلى الوقوف على ذلك إلَّا بعد أن يتفقَّه سنين كثيرة، ويخالط الفقهاء المدَّة الطويلة، ويتحقَّق طرق القياس، ويعلم ما يصحِّحه ويفسده، وما يجب تقديمه على غيره من الأدلة، وفي تكليف العامة بذلك تكليف ما لا يطيقونه، ولا سبيل لهم إليه] اهـ.
من هنا تظهر الحاجة لاستمرار الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، وبث الهمة لدى العلماء والباحثين والمؤسسات المتخصصة لطَرْق مباحثه، والكشف عن سماته وآدابه، وبيان حاجة الدين والناس إليه، وإحياء مفاهيمه وطرائقه وموضوعاته، فذلك من فروض الكفاية المطلوبة من الأمة امتثالًا لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، الذي تضمن إشارة حكيمة إلى أَنَّ الله تعالى قد جعل الاجتهاد في المستجدات هو السبيل لمعرفة الأحكام الشرعيَّة بعد انقطاع الوحي الشريف، وكلاهما بيان للأحكام الشرعيَّة.
وفي ذلك يقول أبو المظفر السمعاني في "قواطع الأدلة" (1/ 30، ط. مؤسسة الرسالة): [علم الفقه علم مستمر على ممرّ الدهور، وعلى تَقلُّب الأحوال والأطوار بالخلق، لا انقضاء ولا انقطاع له، وقد جعل الله تعالى اجتهاد الفقهاء في الحوادث في مدرج الوحي في زمان الرسل صلوات الله عليهم، فقد كان الوحي هو المطلوب في زمان الرسل عليهم السلام بشأن أحكام الحوادث ويحمل الخلق عليها، فحين انقطع الوحي وانقضى زمانه وضع الله تبارك وتعالى الاجتهاد من الفقهاء في موضع الوحي؛ ليصدر منه بيان أحكام الله تعالى ويحمل الخلق عليها قبولًا وعملًا، ولا مزيد على هذه المنقبة، ولا متجاوز عن هذه المرتبة] اهـ.
ولمَّا كان العاميُّ أو المقلِّد ليس بمقدوره أن يجتهد، وليس له القدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، ولا يملك أدوات القياس والاستدلال، وليس له نصيبٌ في فهم معاني اللغة وجب عليه أن يقلِّد مجتهدًا؛ لأنَّه ليس من أهل الاجتهاد، وذلك عملًا بقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: 7]، فجاء الأمر للعوام بسؤال أهل العلم كي يتبعوا أقوالهم؛ كما أمر الله تعالى غير العالم من العوام بطاعة العالم؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، وأولو الأمر المشار إليهم في الآية الكريمة: هم العلماء والمتخصّصون؛ قال الإمام ابن نجيم في "البحر الرائق" (8/ 556، ط. دار الكتاب الإسلامي): [والمراد بأولي الأمر: العلماء في أصحِّ القولين، والمطاع شرعًا مقدَّم، وكيف لا يتقدمون والعلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على ما جاءت به السنة!] اهـ.
وقال الإمام الروياني في "بحر المذهب" (11/ 148، ط. دار الكتب العلمية): [وأولوا الأمر هم العلماء] اهـ.
كما يدل على وجوب سؤال العلماء واتباعهم: ما أخرجه الإمام أبو داود في "سننه" من حديث جابر رضي الله عنه في الرجل الذي أصابته الشَّجَة وهو جنب، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة؟ فقالوا: لا نجد لك رخصةً وأنت تقدر على الماء، فاغْتَسَلَ، فمَاتَ؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ».
قال الإمام الآمدي في "الإحكام في أصول الأحكام" (4/ 228، ط. المكتب الإسلامي): [العامِّيُّ ومَن ليس له أهلية الاجتهاد، وإن كان مُحصِّلًا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهدين، والأخذ بفتواه عند المحقِّقِين من الأصوليين] اهـ.
وقال الإمام ابن السمعاني في "قواطع الأدلة" (2/ 340-341): [وإذا أفتى العالم واحدًا من العامة في الحادثة تنزل به جاز تقليده والأخذ به؛ لأنَّ العامة لو كُلِّفوا الاجتهاد والاستدلال لكان فرض طلب العلم على وجه يصير به الإنسان عالمًا مجتهدًا فرضًا على الأعيان، ولو كان كذلك لبطل معايش الناس، ولأضرَّ بهم ذلك ضررًا بيِّنًا، ولحقتهم المشقة التي لا يمكن احتمالها، وقد دفع الله مثل هذا عن الأمة، ووضع الإصر عنهم، ولم يُحمِّلهم ما ليس لهم وسع في تحملها رحمة من الله تعالى ولطف فعله بهم، وإذا لم يجب عليهم ما ذكرناه بقى فرضهم الأخذ بقول غيرهم وتقليدهم وهذا التقليد في الفروع جائز] اهـ.
وذهب الإمام ابن أبي يعلى الحنبلي إلى فِسْق القول بعدم التقليد؛ أورد ذلك في "طبقات الحنابلة" (1/ 31، ط. مطبعة السنة المحمدية) فقال: [ومن زعم أنَّه لا يرى التقليد، ولا يقلِّد دينه أحدًا؛ فهو قول فاسق عند الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم] اهـ.
ويتعجَّب الإمام الذهبي ممَّن يطالبون المُقَلّدين بسلوك مسلك الاجتهاد، والأخذ من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مباشرة؛ فيقول في "سير أعلام النبلاء" (13/ 377، ط. دار الحديث): [الفقيه المبتدئ والعامِّيُ الذي يحفظ القرآن أو كثيرًا منه لا يسوغ له الاجتهاد أبدًا، فكيف يجتهد؟ وما الذي يقول؟ وعلامَ يبني؟ وكيف يطيرُ ولمَّا يُرَيِّش؟] اهـ.
ولقد اتَّفقت آراء العلماء المحققين على أنَّه لا يجوز للعوام أخذ الأحكام الشرعية العملية مباشرة من الكتاب العزيز أو السنة المطهرة، وترك مذاهب وأقوال أئمة الفقه؛ أشار إلى ذلك الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (1/ 82) عند نقله قول أبي القاسم الدراكي: [والأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقول الشافعي وأبي حنيفة، قال الذهبي مُعَقِّبًا: قلتُ: هذا جيد، لكن بشرط أن يكون قد قال بذلك الحديث إمام من نظراء الإمامين مثل مالك، أو سفيان، أو الأوزاعي، وبأن يكون الحديث ثابتًا سالمًا من علة، وبأن لا يكون حجة أبي حنيفة والشافعي حديثًا صحيحًا معارضًا للآخر؛ أما مَن أخذ بحديث صحيح وقد تنكبَّه سائر أئمة الاجتهاد فلا] اهـ.
ويَرى العلماء عدم جواز الأخذ من الأحاديث الشريفة إلَّا بعد سؤال أهل العلم؛ فقال الشيخ ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/ 35، ط. دار الكتب العلمية): [إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، واختلاف الصحابة والتابعين؛ فلا يجوز أن يعمل بما شاء ويتخيَّر، فيقضي به ويعمل به حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به، فيكون يعمل على أمر صحيح] اهـ.
وترجع العلة في ذلك إلى أنَّه لا يستطيع الأخذ من القرآن الكريم وكذلك من السنة المطهرة أخذًا صحيحًا إلَّا الفقهاء من أهل العلم، أشار إلى ذلك المعنى الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (2/ 163)، فقال: [قال أبو نعيم -وهو من أشهر شيوخ البخاري-: كنت أمرُّ على زفر، وهو محتبٍ بثوبه في كِنْدَةَ، فيقول: "يا أحْوَل تعالَ حتَّى أُغَرْبِل لك أحاديثك"؛ فأُرِيه ما قد سمعتُ فيقول: "هذا يؤخذُ به وهذا لا يؤخذُ به، وهذا ناسِخٌ، وهذا منسوخٌ"] اهـ.
وقال العلامة ابن الحاج في "المدخل" (1/ 128، ط. دار التراث): [قال ابن عيينة: الحديث مَضِلَّةٌ إلا للفقهاء؛ يريد أنَّ غيرهم قد يحمل الشيء على ظاهره، وله تأويل من حديثٍ غيره، أو دليلٌ يخفى عليه، أو متروك أوجب تركه، غير شيء ممَّا لا يقوم به إلا مَن استبحر وتفقه] اهـ.
وقال القاضي عياض في "ترتيب المدارك وتقريب المسالك" (1/ 91، ط. مطبعة فضالة): [قال ابن وهب: الحديث مضِلَّةٌ إلا للعلماء] اهـ.
وساق الحافظ المزِّي الدليل على ذلك؛ فقال في "تهذيب الكمال"
(24/ 271، ط. مؤسسة الرسالة): [وقال هارون بن سعيد الأيلي: سمعت ابن وهب وذكر اختلاف الأحاديث والناس: لولا أنِّي لقيت مالكًا والليث لضللت، يقول: لاختلاف الأحاديث] اهـ.
ويَسوق الحافظ ابن عساكر علة أخرى؛ فيقول في "تاريخ دمشق" (50/ 359، ط. دار الفكر): [عن ابن وهب قال: لولا مالك بن أنس والليث بن سعد لهلكت؛ كنت أظنُّ أنَّ كل ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يُعمل به] اهـ.
أَمَّا قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "إذا صحَّ الحديث فاضربوا بمذهبي عرض الحائط"، وقوله: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"؛ فقد أوضح الإمام النووي المراد منه؛ فقال في "المجموع شرح المهذب" (1/ 64، ط. دار الفكر): [وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أنَّ كل أحدٍ رأى حديثًا صحيحًا، قال هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره: وإنَّما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدَّم من صفته أو قريب منه، وشرطه أن يغلب على ظنِّه أنَّ الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته، وهذا إنَّما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قلَّ من يتَّصِف به، وإنَّما اشترطوا ما ذكرنا؛ لأنَّ الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها، لكن قام الدليل عنده على طعنٍ فيها، أو نسخها، أو تخصيصها، أو تأويلها، أو نحو ذلك] اهـ.
وبناءً على ذلك: فالعاميُّ لا يَسَعه إلَّا تقليد أهل العلم واتباعهم، ولا يجوز له التجاسر على الكتاب والسنة، أو العمل بظاهر النصوص من غير الرجوع إلى أهل العلم؛ إذ ليس له القدرة على استنباط الأحكام، ولا فَهْم النصوص، ولا يملك أدوات القياس والاستدلال، وليس له نصيبٌ من فهم معاني اللغة إلى غير ذلك من أدوات الاجتهاد وفَهْم النصوص.