رئيس التحرير
أحمد ناصف
رئيس التحرير
أحمد ناصف

نجيب محفوظ ورمضان والعيد.. حكايات خالدة في الأدب المصري

نشر
مستقبل وطن نيوز

في إطار الاحتفاء بالهوية الثقافية المصرية، اختارت وزارة الثقافة الأديب العالمي نجيب محفوظ ليكون محورًا للتكريم في جميع فعالياتها، وذلك تحت رعاية وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، في السادس عشر من أبريل. وتأتي هذه المناسبة كفرصة لاستعادة أبرز ما دونه الأديب الكبير عن شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، حيث كتب عنهما بروح العاشق، ودقة المؤرخ، وحنكة الفيلسوف، مما جعله يخلدهما في أعماله الأدبية كما لم يفعل كاتب من قبله.

رمضان في أدب نجيب محفوظ

في روايته الشهيرة "خان الخليلي"، قدم نجيب محفوظ وصفًا دقيقًا لاستعدادات المصريين لشهر رمضان، حيث قال:
"جاء مساء الرؤية، وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشي أضاءت مئذنة الحسين إيذانًا بشهود الرؤية. وقد اجتزأوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ، وزُيّنت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياءً، فطاف بالحي وما حوله جماعات مهللة هاتفة: ‘صيام صيام كما أمر قاضي الإسلام’، فقابلتها الغلمان بالهتاف، والبنات بالزغاريد، وشاع السرور في الحي كأنما حمله الهواء الساري...".

هذا الوصف العميق يعكس كيف كان المصريون يستقبلون الشهر الفضيل بأجواء روحانية ومظاهر احتفالية تُميزه، حيث كان لمئذنة الحسين ودورها في الإعلان عن الرؤية أثر خاص في نفوس الناس، وأصبحت رمزًا لترقب بداية شهر الخير والبركة.

ليلة العيد.. بهجة تتجسد في الأدب

لم يكن احتفال المصريين بالعيد بعيدًا عن قلم نجيب محفوظ، إذ تناول في "فتوة العطوف" أجواء ليلة العيد، حيث كتب:
"إذا لاحت في الأفق القريب بشائر عيد الفطر، خفت وطأة رمضان عن النفوس، وهون الفرح الموعود من جفاف شهر الصوم، واهتزت صرامة التقشف في الصدور تحت موجة طرب آن انطلاقها. هناك تجد ربات البيوت أنفسهن في مكانة الساحر، يتطلع إليهن الصغار بأعينهم الحالمة، هاتفة بهن أن يبدعن آيات الكعك اللذيذ، وأن يخلقن من العجين كهيئة العرائس والحيوان والطير".

ويتابع محفوظ وصفه لمظاهر العيد في "خان الخليلي"، قائلًا:
"وكان الأب أول المستيقظين، فتوضأ ثم غادر البيت حين الفجر ميممًا المسجد لصلاة العيد... وكان أحمد ثاني المستيقظين، فنهض نشيطًا حبورًا، وحلق ذقنه بعناية، وارتدى جلبابًا جديدًا وطاقية جديدة. ووافته أمه إلى حجرته، وقد مشطت شعرها وأخذت زينتها، فقبّل يدها.. ودعت للأسرة بالعمر المديد والسعادة والرفاهية. مضيا معًا إلى الصالة، وجلسا جنبًا إلى جنب يتحدثان وينتظران بقية الأسرة".

هذه التفاصيل الدقيقة ترصد كيف كان العيد يمثل فرحة جماعية، تمتد من لحظة الاستعداد للصلاة إلى لحظات التجمع العائلي، حيث تسود مشاعر الحب والفرح، وتتحول البيوت إلى مساحات عامرة بالبهجة.

احتفالات العيد في الحارة المصرية

في "بين القصرين"، يقدم محفوظ صورة نابضة بالحياة لأجواء العيد في الشوارع المصرية، حيث كتب:
"في صباح يوم العيد، كان الأطفال يركضون في الشوارع يجرون وراء بعضهم البعض، وكان صوت الزغاريد يملأ المكان. أما النساء، فقد ارتدين أجمل ما لديهن من ملابس جديدة، وكانت الشوارع مزينة بالألوان الزاهية. في ذلك اليوم، كانت البسمة لا تفارق الوجوه، وكان الجميع يشعرون بالسعادة والطمأنينة. وكان العيد بالنسبة لهم ليس مجرد مناسبة دينية، بل فرصة لتجديد الروابط الاجتماعية والإنسانية".

هذه السطور تعكس كيف كان العيد بمثابة احتفال شعبي شامل، لا يقتصر على كونه مناسبة دينية، بل كان مساحة للتواصل والتقارب بين أفراد المجتمع، حيث تتجلى روح المودة والمحبة بين الجميع.

نجيب محفوظ يروي ذكرياته عن العيد

في حوار نادر مع مجلة "اليمامة" عام 1998، كشف نجيب محفوظ عن ذكرياته الخاصة باحتفالات العيد، قائلًا:
"كنت أشارك في عمل كعك العيد حتى أني كنت أنقشه مع والدتي، وكنت أذهب مع الكعك إلى الفران وأتباهى بكعك والدتي أمام الأصدقاء. وعندما انتقلنا إلى حي العباسية، وكنت في التاسعة، دعوت أصدقائي لزيارة الأحياء العريقة، وكانت والدتي تصطحبني على عربة كارو لزيارة أولياء الله".

وأضاف محفوظ متحدثًا عن لبس العيد:
"كنت أذهب مع والدي لشراء بدلة العيد التي كانت تبيت في حضني ليلة العيد. وأتذكر البدلة التي جاءتني وأنا في العاشرة، فقد ظلت معي وقتًا طويلًا وارتبطت عندي بالعيد. وكانت العيدية عبارة عن جنيه من الذهب، وكانت تساوي وقتها 97.5 قرشًا، بينما الجنيه الورقي يساوي 100 قرش، إلا أن قيمة العيدية الذهب كانت في لمعانها فقط".

وفي كتاب "أنا نجيب محفوظ"، للكاتب الصحفي إبراهيم عبد العزيز، قال محفوظ:
"كنت أهوى تناول الكعك، لكني عندما أصبت بمرض السكر، منعني الأطباء من تناوله. أما الجنيه الذهب الذي كان يعطيه لي والدي، فكانت فرحته غامرة.. لم تكن قيمته في شرائه، بل في لمعانه وما يرمز إليه من مناسبة سارة".

الهوية المصرية في أدب نجيب محفوظ

استطاع نجيب محفوظ أن ينقل أدق تفاصيل عادات المصريين في رمضان والعيد، ليجعلها جزءًا من ذاكرة الوطن الثقافية. من خلال رواياته وأحاديثه، قدم صورة حقيقية للحياة المصرية في هذه المناسبات، موثقًا لحظات الفرح، والتقاليد، والممارسات الاجتماعية التي لا تزال تشكل ملامح العيد حتى اليوم.

بهذه السرديات، لم يكن نجيب محفوظ مجرد كاتب روائي، بل كان مؤرخًا للحياة المصرية، وأرشيفًا نابضًا بالحياة لما كان وما يزال يشكل جوهر الهوية المصرية.

عاجل