حكاية الشهيد الحي الذي فقد ساقيه وذراعه وعاد ليحارب من جديد
عبد الجواد محمد مسعد الشهير بـ الشهيد الحي بطل من أبطال حرب الاستنزاف، وبهدها عاد وشارك في حرب 6 أكتوبر ودمر إحدى دبابات العدو، أما قصة إصابته كما رواها هو بالتفصيل: كانت المهمة تدمير مخازن العدو أثناء حرب الاستنزاف في منطقة إدارية للعدو على بعد 35 كيلو متر في عمق سيناء شرق القناة، وكانت المدفعية والطيران المصري قد فشلوا في تدميرها لوجودها في أعماق كبيرة تحت الأرض، وكان ضمن مجموعة من أبطال الصاعقة بقيادة الملازم أول عيد زكي إبراهيم، تسللت المجموعة خلال مواقع العدو بعد آخر ضوء سيرًا على الأقدام لمدة 7 ساعات معهم حمولة تقدر بحوالي 50 كيلو جرام من الأسلحة والذخائر والمواد المتفجرة لكل فرد، حتى وصلوا منطقة التفجير قبل الفجر مع زملائه الذين شاركوه هذه العملية وهم عبد الفتاح عمران، وصابر عوض، وعصمت علي وأحمد ياسين، وعادل محمد وقاموا بتلغيم 11 هدفًا داخل الموقع وأشعلوا فيها الفتائل وبدأوا رحلة العودة.
بدأت الانفجارات تهز المكان والأبطال في طريقهم المحدد حتى طلع عليه النهار وكان رد فعل العدو إرسال 4 طائرات حربية لتمشيط المنطقة، واكتشفتهم طائرات العدو وهم على بعد 11 كيلو فقط من شاطئ القناة الشرق فأرادت إبادتهم، احتمى أبطال مجموعة الصاعقة ببعض المنخفضات بالصحراء من طلقات رشاشات الطائرة وقنابلها وكان عبد الجواد يبعد بضعة عشر أمتار عن المجموعة وطائرة ميراج تطارده برشاشاتها فأخذ عبد الجواد يجري في خط متعرج ليتقي الإصابة وفي الوقت نفسه يستدير للخلف من وقت لآخر موجها سلاحه الآلي نحو الطائرة موجها لها دفعة من طلقاته في كل إغارة عليه في تحد لقائد الطائرة الذي باغته بعد لحظات بإطلاق صاروخ نحوه فلم يشعر البطل عبد الجواد إلا بنفسه طائرا في الهواء وسقط على الأرض وسط عاصفة من الرمال حجبت عنه الرؤية تمامًا.
أشلاء منتشرة في الصحراء
الشهيد الحي
وما لبث أن انقشع الغبار وغادرت الطائرات الإسرائيلية المكان، وجد البطل عبد الجواد نفسه ملقى على وجهه نظر أمامه فوجد أشلاء بشرية منتشرة في مساحة من الصحراء ساقان وذراع فأراد القيام لاستيضاح الأمر ومعرفة لمن تكون هذه الأشلاء من زملائه الذين قذفت بهم الانفجارات لكل هذه المسافة ولكنه لم يستطع القيام فتحسس جسده فوجد أنه فقد ساقيه وذراعه الأيمن والدماء تسيل منها ومن عينه اليمنى التي اكتشف أنه لا يرى بها .. لم يفقد البطل تركيزه.. انتظر لدقائق أن يحضر أحد من زملائه لمعاونته فلم يحضر أحد فتوقع أنهم استشهدوا جميعًا وأنه سيلحق بهم بعد بضع دقائق.. ولكنه توقع في الوقت نفسه أن تحضر إحدى طائرات هيلوكوبتر العدو للحصول على أسرى فتتمكن من أسرهم وهنا اتخذ قرارا سريعًا وهو أن يحرم العدو من أسره والحصول منه على معلومات تضر بالقوات المسلحة المصرية فوجه سلاحه الآلي نحو صدره ليتخلص من حياته قبل وصول العدو إليه كانت معه 4 خزانات آلي فرغت اثنتين منها أثناء مطاردة طائرة العدو له وبقيت اثنتان كاملتان.. أراد أن يفرغ إحداها 30 طلقة في صدره.. ضغط على تتك إطلاق النار بسلاحه الآلي بقوة لتخرج جميع الطلقات دفعة واحدة ولكن لم تخرج طلقة واحدة من البندقية، أخذ يتفحص البندقية ليعرف سبب تعطلها وبدأ ينفخ في منطقة الأجزاء الآلية بها ليزيل ذرات الرمال التي قد تكون علقت بها فمنعت حركتها الآلية وفي تلك اللحظة وجد يدا تقبض على يده بقوة لتمنعه من إعادة المحاولة نظر فوجده قائد العملية الذي أتى مع رجاله ليتفقدوه، سحب منه البندقية وقام بتأمينها وإعطائها أحد الجنود، قام القائد بربط مكان البتر بإحدى ساقيه بالرباط الميداني الخاص بمسعد والساق الأخرى برباطه هو الميداني الشخصي أما مكان بتر الذراع فقام بربطها بملابسه بعد أن مزقها على شكل شرائط ثم طلب القائد من جنوده حمل عبد الجواد فطلب عبد الجواد منهم أن يحضروا ساقيه وذراعه وأكد على إحضار سلاحه ولا يتركونه.. ساروا به المسافة الباقية إلى القناة التي تبلغ 11 كيلو حتى وصلوا إلى خط بارليف بين نقطتي الكاب والتينة اللتين تبعدان عن بعضهما حوالي 3 كيلو مترات وعند حافة القناة أتى أحد اللانشات الذي حمل عبد الجواد مع زملائه وعلى الضفة الغربية كانت هناك نقالة وُضِع فوقها مع أطرافه بعد أن قام الطبيب بتطهير أماكن الجروح بجسده وتعليق محلول له في وجود قائد كتيبته وقائد العملية وباقي زملائه في العملية، قال الطبيب القائد الكتيبة
يا فندم الجندي ده باقي له عدة ساعات قبل أن يلاقي ربه...
سأله القائد: طيب نعمل إيه؟
رد الطبيب: أؤمر سيادتك أن تقوم عربة مدرعة بنقله إلى مستشفى بورسعيد... ولما كان الطريق إلى بور سعيد من التينة يبلغ حوالي 25 كيلو متر على ضفة القناة الغربية بمحاذاة القناة تماما وهناك خطورة من احتمال استهداف العدو للمدرعة وهي هدف واضح الأسلحة العدو ولم يرض القائد التضحية بمدرعة وسائقها من أجل جندي مصاب في طريقه للموت.. وهنا تقدم قائد العملية باقتراح قائلا يا فندم يتم نقله إلى بور سعيد فوق النقالة سيرًا على الأقدام بواسطة جنديين ومعهم جندي ثالث يحمل له زجاجة المحلول واذا ما انتهت يقوم بتغييرها.
الشهيد الحي لا يزال على قيد الحياة
وبالفعل تم قبول هذا الاقتراح وتم لفه مع أطرافه ببطانية وتم ربطهم بالنقالة بأحزمة كي لا يسقط أثناء الحركة السريعة.. إلى المستشفى.. استغرقت رحلته حوالي 12 ساعة من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساءً وسط وابل من قذائف العدو في اتجاههم، كان يطالب زملاءه بتركه لينجوا بأرواحهم وهو يشاهد القذائف الساقطة من السماء فوق رؤوسهم فالجيش في حاجة لهم ولكنهم ساروا في طريقهم بإصرار وكأنهم لم يسمعوا شيئًا.. وفي المستشفى تعجب طبيب المستشفى من كونه لا يزال على قيد الحياة بعد حوالي 14 ساعة من إصابته التي تمت في السادسة صباحا، وتم اصطحابه إلى غرفة العمليات حيث ساد الظلام حوله.. وبعدها تم نقله في سيارة إسعاف روسية مجهزة إلى مستشفى دمياط على بعد 45 كيلو حيث زاره المحافظ فقبله وتراجع بالخلف بعد أن هاله مظهره.. وقامت سيارة أخرى بعد فترة بنقله إلى مستشفى الحلمية العسكري حيث توجه إليه قائد المستشفى اللواء طبيب عادل خطاب الشواربي وكانت قد مضت عليه أربعة أيام بعد الإصابة، وهو في حالة إعياء تام وألم شديد في كل جسده وبمنطقة الظهر التي كان بها جرح طولي يمنعه من النوم على ظهره وبدا كأنه مشرف على الموت.. فسأله قائد المستشفى نفسك في حاجة ؟ فأجابه عبد الجواد: نفسي في عصير مانجة. فنادى القائد على أحد الجنود وطلب منه إحضار عصير مانجو.. وما إن شرب عبد الجواد كوب العصير الذي أحضره له الجندي نسيم حتى دبت الحياة في أوصاله وكأنه تناول أكسير الحياة... في أحد الأيام وهو موجود بالمستشفى وجد الجندي نسيم المكلف برعايته يبالغ في تنظيف أجزاء جسده بالقطن المبلل بماء الكولونيا.. وكانت الضمادات تملأ جسده للعلاج من الحروق التي أصابت جلده فضلا عن أماكن البتر في أطرافه وعينه المصابة الناتجة عن صاروخ الطائرة الذي أصابه.. ولما سأله عبد الجواد عن سر هذا الاهتمام الزائد أجابه أنه ستأتيه زيارة مهمة خلال هذا اليوم فتوقع عبد الجواد أن يكون الزائر هو الفريق سعد الدين الشاذلي الذي كان وقتها قائد القوات الخاصة الصاعقة والمظلات.. وبعد قليل شعر بحركة كثيفة في الحجرة واهتمام شديد وأحس بمن يقترب منه ويقبله من رأسه وهو نائم على وجهه لعدم استطاعته النوم على ظهره من الجرح الطولي به فنظر نحوه بطرف عينه اليسرى فلم يجده الشاذلي بل وجده الزعيم جمال عبد الناصر وبجواره يا بطل.. احكي لي بقا عملت إيه ؟ الفريق محمد فوزي.. جلس عبد الناصر إلى جواره على حافة السرير قائلا: حمدا لله على سلامتك
فحكى له البطل ما تم حتى إصابته.. وكان لدى عبد الناصر تقرير بما قام به البطل فسأله متعجبا:
فيه حد يضرب طيارة ببندقية ؟
فأجابه عبد الجواد : أحارب ولو بالنبوت...
أجاب عبد الجواد: أيوه يا أفندم نفسي أرجع الجبهة تاني... وفي نهاية لقائه الذي قارب على الربع ساعة سأل عبد الناصر البطل: نفسك في حاجة؟
فقام عبد الناصر واقفا وتراجع خطوة إلى الخلف وتأمل جسد عبد الجواد جيدا ليتأكد مرة أخرى من كم الإصابات والبتر التي لحقت به ولمعت عيناه ونظر إلى الفريق فوزي قائلاً:
يا فوزي طول ما الروح دي عندنا حننتصر بإذن الله.