أزمات صناعة السيارات تكشف استمرار معاناة الاقتصاد الألماني
نجحت ألمانيا في اجتياز جائحة كوفيد-19 وتجنب توقف كارثي لقطاعها الصناعي بعد أن قطعت روسيا إمدادات الغاز عنها. ومع ذلك، لم يبدد هذا النجاح المخاوف المتعلقة باحتمالية وقوع أزمة اقتصادية. أحداث الأسبوعين الماضيين جاءت لتؤكد بشكل مثير أن تلك المخاوف كانت مبررة.
وشهدت الانتخابات التي أُجريت في ولايتي تورينجن وساكسونيا بشرق ألمانيا بداية هذا الشهر زيادة في دعم الأحزاب الشعبوية، مما شكل ضربة جديدة للائتلاف الحاكم في برلين وزاد من الشكوك بشأن قدرة ألمانيا على جذب الاستثمارات.
تحديات "فولكس واجن" و"بي إم دبليو"
فاجأت "فولكس واجن"، أكبر شركة لصناعة السيارات في البلاد، الجميع بإعلان نيتها إنهاء اتفاقية عمل دامت لعقود، وربما إغلاق مصانع محلية بسبب تراجع الطلب. بعد ذلك، خفضت شركة "بي إم دبليو" توقعاتها لأرباح العام بأكمله، مما أضاف ضغطًا إضافيًا على الاقتصاد الألماني.
وفاجأت شركة "يوني كريدت" (UniCredit) المستثمرين بالإعلان عن استحواذها على 9% من أسهم "كوميرز بنك" (Commerzbank)، مما أثار دهشة الحكومة الألمانية وزاد من حالة عدم الاستقرار في القطاع المالي.
تقرير "بي دي أي" حول التنافسية الألمانية
في تقرير يدعو إلى اتخاذ إجراءات فورية لتعزيز تنافسية الدولة وإصلاح اقتصادها القائم على الصناعة، كتبت تانيا غونر، رئيسة مجموعة الضغط الصناعي "بي دي أي" (BDI)، أنه "لا جدوى من تجميل الواقع، فألمانيا تواصل التخلف دولياً". وأضافت أن تحول ألمانيا "سيكلف الجميع، الاقتصاد والسياسة والمجتمع، لكن عدم التحول سيكلفنا أكثر بكثير".
ويلقي عجز ألمانيا عن تحقيق نمو كبير بظلاله على آفاق الاقتصاد في الأمد البعيد، وكذلك على الآمال السياسية للائتلاف الحاكم بقيادة المستشار أولاف شولتس الذي يضم 3 أحزاب. اشتدت الصعوبات الاقتصادية لفترة من الوقت، إذ تضرر قطاع التصنيع، الذي يُعد العمود الفقري للاقتصاد الألماني، بشدة جراء تراجع الطلب من المستهلكين في الصين، التي تُعد سوقاً رئيسية لتصدير السيارات الفاخرة والآلات المتطورة الألمانية.
تأثير التضخم والصعود السياسي للأحزاب المتطرفة
في العام الماضي، أثرت موجة التضخم المتصاعدة على الأسر وساهمت في صعود كل من اليمين واليسار المتطرفين. تأثير هذه العوامل الاقتصادية على المجتمع والسياسة يظل محل اهتمام، حيث تسعى الحكومة إلى إيجاد حلول فاعلة للتحديات المتزايدة.
وتُعد "فولكس واجن" واحدة من أكثر الشركات المصنعة تضرراً من تباطؤ الطلب في الصين، حيث اعتمدت لعقود على الدولة الآسيوية كمصدر رئيسي للمبيعات والأرباح. ورغم أن الصين لا تزال سوقاً مهمة للشركة، فقد تراجعت حصتها السوقية في الأعوام الأخيرة بسبب المنافسة القوية من قبل الشركات الصينية الأكثر مرونة، وأيضاً من "تسلا".
كما تؤثر المنافسة على حصة "فولكس واجن" في السوق الأوروبية، حيث لم يعد الطلب على السيارات الجديدة إلى مستويات ما قبل الجائحة، وواجهت الشركة صعوبة في جذب المشترين لسياراتها الكهربائية. إضافة إلى ذلك، تفاقمت مشكلات الشركة بسبب تراجع الكفاءة والتكاليف المرتفعة، مما أثقل كاهل العملاق الصناعي الذي يوظف أكثر من 600 ألف شخص حول العالم. وازدادت الأمور تعقيداً بسبب قرار الحكومة بإنهاء الحوافز المقدمة لمشتري السيارات الكهربائية بشكل مفاجئ، وهو تنازل مثير للجدل تم التوصل إليه خلال محادثات الميزانية العام الماضي.
مع ذلك، فاجأت "فولكس واجن" العمال والقيادات السياسية بإعلانها نيتها إلغاء اتفاقية عمالية استمرت ثلاثة عقود، منعت خلالها الشركة من تنفيذ تسريحات قسرية. كما أعلنت أنها تدرس لأول مرة في تاريخها الممتد على مدى 87 عاماً إمكانية إغلاق بعض مصانعها في ألمانيا.
هذا التصريح أثار احتجاجاً فورياً من النقابات العمالية القوية التي تتمتع بنفوذ كبير في الشركة، حتى بمعايير ألمانيا. ومن المتوقع أن تكون المفاوضات المقبلة بين الإدارة وممثلي العمال، في محاولة لحل الأزمة، تجربة صعبة ومؤلمة لكلا الطرفين.
توقعات أقل تفاؤلاً من "بي إم دبليو"
وعلى الجانب الآخر، كانت شركة "بي إم دبليو" أكثر مرونة في التكيف مع التحول نحو السيارات الكهربائية، إلا أن المنافسة الأصغر حجماً لـ"فولكس واجن" لم تكن بعيدة عن سلسلة الأخبار السلبية هذا الشهر. فقد اضطرت الشركة، التي يقع مقرها في ميونيخ، إلى خفض توقعاتها لأرباح العام بسبب تراجع الطلب في الصين، بالإضافة إلى استدعاء 1.5 مليون سيارة نتيجة مشكلات محتملة في أنظمة المكابح.
شركة "كونتيننتال" (Continental AG) هي الموردة لأنظمة الفرامل السالف ذكرها، وكانت تُعرف بكونها واحدة من أكثر شركات تصنيع قطع غيار السيارات كفاءة وتنافسية في أوروبا قبل أن تتأثر سلباً بسبب التوسع السريع الذي شهدته خلال الأعوام الأخيرة.
تغييرات جذرية في "كونتيننتال"
ورغم استمرار بعض أقسام "كونتيننتال"، مثل قطاع الإطارات، في تحقيق أرباح قوية، إلا أن أقساماً أخرى واجهت سلسلة من إجراءات إعادة الهيكلة المؤلمة التي شملت تسريح آلاف الموظفين. وفي الشهر الماضي، أعلنت الشركة أنها تدرس إمكانية فصل وحدتها الخاصة بالسيارات، وهو قرار استراتيجي قد يؤدي إلى تغييرات جذرية، بعد أن كانت الإدارة السابقة ترفضه لعدة أعوام. وإذا تم تنفيذ هذا القرار، فسيعكس مدى التحولات العميقة التي يمر بها قطاع السيارات.
قالت أنيتا وولفل، خبيرة الصناعة في معهد "إيفو" الألماني، في تقرير الأسبوع الماضي إن "المزاج السائد في صناعة السيارات يتدهور سريعاً"، مشيرة إلى "توقعات شديدة التشاؤم للأشهر الستة المقبلة".
تقترب ألمانيا، رجل أوروبا المريض، من نهاية فصل تفضل أن تنساه. فربما تمثل الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024 الربع الثاني على التوالي الذي تشهد فيه البلاد انكماشا
ولا تقتصر مشكلات الشركات الألمانية على قطاعها الصناعي الأساسي فقط. ففي صباح الأربعاء الماضي، فاجأ بنك "يوني كريديت" المستثمرين بإعلانه الاستحواذ على حصة 9% في "كوميرز بنك"، مما يجعله ثاني أكبر مساهم في البنك.
وتلقى "كوميرز بنك" صفقة إنقاذ من دافعي الضرائب الألمان في أعقاب الأزمة المالية، وجاءت أنباء استحواذ "يوني كريديت" بعد أسبوع واحد فقط من إعلان الحكومة أنها ستقلص حصتها البالغة 16.5% في البنك لتمهيد الطريق نحو بنك أكثر استقلالية وتنافسية.
إعلان وكالة المالية الألمانية عن عملية البيع قدم فرصة غير متوقعة لرئيس "يوني كريدت" التنفيذي، أندريا أورسيل، حيث نجح في تنفيذ صفقة معقدة للاستحواذ على حصة 4.49% من أسهم "كوميرز بنك"، والتي باعتها الحكومة بهدف تقليص حيازاتها في ثاني أكبر مقرض في ألمانيا.
هذه الصفقة بدت مفاجئة لكل من إدارة البنك والحكومة الألمانية، رغم أن أورسيل أكد في مقابلة مع تلفزيون "بلومبرج" أن برلين كانت "على دراية تامة" بالصفقة.
والآن، يتعين على البنك الإيطالي "يوني كريدت" التوصل إلى توافق مع أصحاب المصلحة الرئيسيين في ألمانيا، بما في ذلك المسؤولون الحكوميون والمساهمون الآخرون وممثلو العمال، الذين أعربوا عن معارضتهم مسبقاً، مؤكدين أن البنوك القوية تشكل أساس دعم اقتصاد محلي متين.
كما قال فرانك فيرنيكي، رئيس نقابة العمال "فيردي" (Ver.di)، في بيان يوم الأربعاء: "يتعين على وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر الآن الالتزام بدعم ألمانيا كموقع للأعمال التجارية، وأن يقف ضد التهديد المتمثل في استحواذ يوني كريدت على كوميرز بنك".