الانتخابات التشريعية في فرنسا.. معركة شرسة بين اليمين المتطرف واليسار الموحد ومعسكر ماكرون
بات المشهد السياسي في فرنسا أكثر وضوحا مع تشكيل ثلاثة تكتلات تخوض سباق الانتخابات التشريعية القادمة، بعد مرور أسبوع من قرار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بحل الجمعية الوطنية (مجلس النواب) والدعوة لانتخابات برلمانية جديدة، في خطوة مفاجئة إثر الفوز التاريخي لليمين المتطرف الفرنسي في الانتخابات الأوروبية.
فقد نجحت القوى اليسارية أمس الجمعة، وبعد أيام من المفاوضات المكثفة، في تشكيل تحالف جديد فيما بينها أطلقت عليه اسم "الجبهة الشعبية الجديدة" واتفقت على برنامج سياسي مشترك لخوض الانتخابات التشريعية في مواجهة "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، هذا الحزب الذي يتصدر المشهد السياسي بعد فوزه بأعلى الأصوات في الانتخابات الأوروبية، ويسعى لتوسيع قاعدته والحصول على الأغلبية البرلمانية.
وبين هاتين الكتلتين، يحتفظ ماكرون بمعسكره الرئاسي (بين أحزاب النهضة وآفاق والحركة الديمقراطية "مودم")، ليخوض السباق الانتخابي بقيادة رئيس الوزراء جابرييل أتال.
وبدأت المعركة الانتخابية تتضح معالمها مع تشكيل هذه التحالفات الثلاثة، وخاصة بعد أسبوع حافل من الأحداث السياسية غير المسبوقة مع تصاعد حدة الخلافات والانقسامات بين مختلف القوى السياسية منذ أن فجر الرئيس الفرنسي، يوم الأحد الماضي، مفاجأة مدوية بالإعلان عن قراره بحل البرلمان بعد أن حصل حزب "النهضة" الحاكم على 14.60% من الأصوات بفارق كبير عن حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، والذي حصل على 31.37 % من الأصوات وفقا للنتائج النهائية للانتخابات الأوروبية.
ومنذ ذلك القرار "الصادم"، لا حديث في البلاد إلا على مستقبل الدولة وخاصة بعد صعود اليمين المتطرف وسرعان ما بدأت الأحزاب حملات انتخابية تستمر حتى موعد التصويت للجولة الأولى للانتخابات في 30 يونيو الجاري، وتسارعت القوى السياسية في إعادة ترتيب صفوفها وتصارعت فيما بينها للفوز بالأغلبية البرلمانية بشكل تحول إلى فوضى سياسية غير مسبوقة.
وبدأ التجمع الوطني، الحزب الأوفر حظا بالفوز بالانتخابات، حملته بين المواطنين لتعريفهم ببرنامجه الانتخابي.. وقالت زعيمة التجمع الوطني مارين لوبان أمس الجمعة إن حزبها سيشكل "حكومة وحدة وطنية" لإخراج فرنسا من المأزق في حال الفوز.
ويسعى التجمع الوطني لتوسيع قاعدته ونجح في الحصول على دعم أطراف أخرى مثل "إريك سيوتي" رئيس حزب الجمهوريين اليميني المحافظ الذي أبدى رغبته في إقامة تحالف مع اليمين المتطرف لخوض الانتخابات التشريعية، وبرر سيوتي ذلك قائلا إن اليمين يحتاج إلى هذا التحالف للاحتفاظ بمقاعده في الجمعية الوطنية، إلا أن هذا التحالف غير المسبوق أدى إلى انقسام شديد في حزبه.
أما التحالف الثاني، فيتعلق بالقوى اليسارية، فقد اتفقت أحزاب اليسار الرئيسية الأربعة: فرنسا الأبية والحزب الاشتراكي وحزب الخضر والحزب الشيوعي، على تشكيل "الجبهة الشعبية الجديدة" وأعلنت الأحزاب اتفاقها بشأن "برنامج حكومي" مشترك وترشيحات فردية في دوائر فرنسا، للحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد البرلمانية، في محاولة منها لقطع الطريق أمام اليمين المتطرف.
ففي برنامجها، وعدت الأحزاب اليسارية بإجراءات اجتماعية ورفع الحد الأدنى للأجور والتخلي عن رفع سن التقاعد إلى 64 عاما في حال الفوز في الانتخابات التشريعية التي تقام على جولتين الأولى في 30 يونيو الجاري والثانية في 7 يوليو القادم.
ووضعت الأحزاب اليسارية انقساماتها بشأن أوكرانيا والشرق الأوسط جانبا لتقدم برنامجا مشتركا يشكل "قطيعة كاملة" مع الماضي فبالنسبة للوضع بالشرق الأوسط، يدعو البرنامج من بين عدة أمور أخرى، إلى "الاعتراف فورا بدولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل على أساس قرارات الأمم المتحدة"، و"فرض حظر على إرسال الأسلحة إلى إسرائيل".
أما الحرب في أوكرانيا التي تثير خلافا في صفوف اليسار أيضا، فقد تعهدت الجبهة الشعبية الجديدة بالدفاع دون كلل عن سيادة الشعب الأوكراني وحريته وضمان شحنات أسلحة "ضرورية" لكييف.
وبعد توحيد صفوفه، بات اليسار يأمل في الفوز، إلا أنه يواجه اليمين المتطرف الذي يظل في موقع قوة مدفوعا بنتيجته غير المسبوقة في الانتخابات الأوروبية.
وما بين اليمين واليسار، يراهن الرئيس الفرنسي على عدم قدرة هاتين الكتلتين على حكم البلاد، فقد صرح ماكرون على هامش مشاركته في قمة مجموعة السبع الكبرى بإيطاليا، قائلا إن برامج الجبهة الشعبية الجديدة وحزب التجمع الوطني "تشكل خطرا كبيرا للغاية" على الاقتصاد الفرنسي وهي "غير واقعية على الإطلاق"، معتبرا أيضا أن هذه الأحزاب "ليست مستعدة للحكم".
وخلال مؤتمر صحفي عقده ليكشف عن خطته المستقبلية لما بعد الانتخابات التشريعية، أشار ماكرون إلى أهمية "حماية قيم الجمهورية الفرنسية" وهي في مقدمة مشروعه للحصول على الأغلبية البرلمانية.. ودعا إلى تشكيل تحالف ينبذ كل أشكال التطرف السياسي ويقف في وجه اليمين المتطرف.
إلا أن فرص الحزب الحاكم تتضائل بين توحيد صفوف الأحزاب اليسارية وتصدر اليمين المتطرف المشهد بقوة وهو ما لفتت إليه مجلة "باري ماتش" الفرنسية، فقد وضعت المجلة على غلافها لعدد 13 يونيو الجاري، صورة لرموز المعسكرين: "التحالف الشعبي الجديد" و"التجمع الوطني" وكتبت "المعركة الجديدة بين اليمين واليسار .. ثلاثة أسابيع يمكن أن تقلب الموازين في فرنسا"، دون ذكر التكتل الثالث المتمثل في الائتلاف الرئاسي الحاكم.
كما أظهر استطلاع أجرته مؤسسة "إيلاب" لصالح صحيفة "ليزيكو" الفرنسية ونُشر أمس، تراجع شعبية ماكرون، حيث أن 24% فقط من الأشخاص المستطلعة أراءهم قالوا إنهم يثقون بأداء حكومة ماكرون في التعامل مع المشكلات التي تواجهها فرنسا، وهو أدنى مستوى له منذ بداية ولايته الثانية في عام 2022.
وبالرغم من ذلك، يحاول الائتلاف الرئاسي أن يقف في وجه اليمين المتطرف الأكثر قوة وأيضا في وجه الجبهة الشعبية اليسارية الموحدة، وتتصارع اليوم الجبهات الثلاثة فيما بينها وتقف على خط المواجهة لنرى من سيربح المعركة الانتخابية في هذه الفترة التاريخية التي تشهدها الجمهورية الخامسة لفرنسا.