«هنا القاهرة».. 90 عامًا على انطلاق أثير الإذاعة
«هنا القاهرة».. كانت هذه العبارة الشهيرة أول ما انطلق عبر أثير الإذاعة على لسان الإذاعي الشهير أحمد سالم، والتي مازال رنين صداها في أسماعنا على مدار تسعة عقود خلت.
احتفلت الإذاعة، أمس الخميس، بمرور 90 عامًا على انطلاق بثها ليمتد أثيرها حتى يومنا هذا ويظل يشع نورها إلى ما شاء أن يستمر عبر مرور الزمن، إلى مختلف البلدان العربية والإفريقية، عبر رسالة إعلامية جادة وملتزمة، أسهمت في تشكيل وجدان الملايين من الناطقين بالعربية في مختلف بقاع المعمورة.
اللبنة الأولى للإذاعة المصرية
انطلق أثير الإذاعة في 31 مايو عام 1934، بالعبارة الشهيرة «هنا القاهرة» التي جرت على لسان الرائد الإذاعي الشهير أحمد سالم، وهي العبارة التي جرى اعتمادها على مدار تسعة عقود، كعبارة رسمية لبدء إرسال كل الإذاعات المصرية، التي بدأت فعلياً في منتصف العشرينات من القرن الماضي، عبر عدد من الإذاعات الأهلية، قبل أن تتوقف تلك الإذاعات بظهور المحطة الحكومية، التي استهلت إرسالها في الخامسة والنصف من مساء يوم 31 مايو عام 1934، بآيات من الذكر الحكيم بصوت المرحوم الشيخ محمد رفعت.
وخلال فترة البث الأولى للإذاعة استمع المصريون في حفل الافتتاح لصوت أم كلثوم، والمطرب صالح عبدالحي، ومحمد عبدالوهاب، قبل أن يلقي حسين شوقي أفندي قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي بك، ومن بعده الشاعر علي بك الجارم، الذي ألقى بصوته قصيدة في تحية ملك البلاد فؤاد الأول، ملك مصر والسودان.
تمثل الدور المهم للإذاعة المصرية في هذه المرحلة في غرس القيم الحقيقية للشخصية المصرية من خلال الكوادر المصرية، واستخدمت الإذاعة ساعة جامعة القاهرة لتعلن الوقت عدة مرات كل يوم للإعلان وتوجيه الأنظار نحو هذه المنارة العلمية.
وتعد الإذاعة من أول الإذاعات على مستوى العالم، والأولى في المنطقة العربية والشرق الأوسط وإفريقيا، وروادها هم الذين أسسوا معظم الإذاعات في البلدان العربية والإسلامية.
الإذاعة صوت الشعب المصري
وإلى جانب دورها الوطني قدمت الإذاعة المصرية عمالقة الفكر والنجوم فى كل المجالات، وكانت صوتًا للشعب المصري، وساهمت فى معالجة قضاياه ومشاكله وعبرت عن آماله وطموحاته، فقد استطاعت الإذاعة منذ البث الأول أن ترتقى بالذوق العام وأن تكون مصدرًا هامًا للمعلومات، وأن تصل إلى الجمهور على أوسع نطاق، وفى عصر التقنيات الحديثة لا تزال تحتفظ بمكانتها وسحرها الخاص.
المحطات الأهلية
عرفت مصر الإذاعة قبل عام 1926 عبر عدد من المحطات الأهلية، التي كان يتركز وجودها في مدينتي القاهرة والإسكندرية، وقد كانت هذه الإذاعات تقدم برامجها باللغة العربية إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، إذ كانت تستهدف في جزء كبير من إرسالها الأجانب المقيمين في مصر، وقد كان معظم ملاك تلك المحطات من كبار التجار، الذين كانوا يستخدمونها كوسيلة لترويج بضائعهم، وعلى رأسهم تجار أجهزة الراديو، وقد كان من أشهر تلك المحطات، محطة راديو فؤاد التي أنشأها عزيز بولس، ومحطة راديو فاروق التي أنشأها إلياس شقال، غير أن كثيراً من تلك المحطات كانت ضعيفة الإرسال، وبعضها لا يغطي أكثر من الحي الذي يُبث منه إرسالها، وكانت لا تتعرف إلى رغبات مستمعيها إلا عن طريق الخطابات أو المكالمات الهاتفية، وتراوح إرسال معظم هذه المحطات بين ساعتين وأربع ساعات يومياً، على فترة إرسال واحدة أو فترتين.
تطور العمل الإذاعي
تمتلك مصر أقوى نظام بث إذاعي في المنطقة العربية، حيث تعمل الإذاعة المصرية من خلال أجهزة إرسال للموجات القصيرة والمتوسطة المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، واللغة الأكثر استخدامًا في الإذاعة المصرية هي اللغة العربية، والتي تمثل 86% من محتوى البث، فيما تمثل اللغة الإنجليزية 17%، والفرنسية 4%، وتقوم على نظام الشبكات، وأهمها :
البرنامج العام: وهي الشبكة الأولى والأهم. تم تمديد ساعات البث لتلك الشبكة ليتم البث على مدار 24 ساعة لتوفير البرامج على مدار الساعة، كانت العديد من الشبكات اللاحقة منبثقة عن الشبكة الرئيسة .
الشبكة المحلية: تتكون من 11 محطة وتركز على المجتمعات المحلية في مختلف المحافظات المصرية، بدأت الشبكة في 26 يوليو 1953 ببثها للإسكندرية، وتم إنشاء أحدث محطة في عام 1995 في حلايب، وتركز جميع الخدمات على تعزيز الأهداف التنموية للدولة .
الشبكة الثقافية: تأسست في 31 مايو 1934، وتضم البرنامج الموسيقي، والبرنامج الثقافي، ويتم بث الخدمة في مصر فقط، والجمهور المستهدف هم المصريون والمقيمون الأجانب، وتعرض الخدمة برامج حول الأدب المصري والأجنبي .
شبكة الإذاعة الخارجية: بدأ بثها في ثماني مناطق رئيسة، في عام 1953، كما تأسست شبكة الشباب والرياضة في 6 أكتوبر 1975، وتتناول مختلف القضايا الاجتماعية والنفسية والأسرية والصحية المتعلقة بالشباب.
أبرز التحديات التي تواجه الإذاعة على المستوى العالمي خلال الفترة الحالية :
-انخفاض نسبة المستمعين: في عصر تهيمن عليه الهواتف الذكية، وخدمات البث، والمحتوى حسب الطلب .
-ظهور المنصات الرقمية: حيث أحدثت المنصات الرقمية مثل "سبوتي فاي " (Spotify) و"ميوزيك آبل " (Apple Music) ثورة في الطريقة التي يستهلك بها الأفراد الموسيقى، وباتت بدائل للراديو التقليدي، مع مكتبة واسعة من الموسيقى، فالمستمعون الآن يتمتعون بحرية تنظيم تجاربهم الصوتية الخاصة، وقد أثر هذا التحول نحو استهلاك المحتوى المخصص وحسب الطلب بشكل كبير على قدرة صناعة الراديو على جذب جمهور كبير والاحتفاظ به .
-الانتشار العالمي الواسع للمنصات الرقمية: مع كسر الإنترنت للحواجز الجغرافية، تتمتع خدمات البث بالقدرة على جذب جمهور عالمي واسع، وقد أدت إمكانية الوصول العالمية هذه إلى ظهور عدد كبير من منشئي المحتوى المستقلين والمذيعين المتخصصين، الذين يمكنهم الآن التواصل مع المستمعين في جميع أنحاء العالم دون الحاجة إلى البنية التحتية التقليدية للبث. ونتيجة لذلك، تواجه محطات الراديو منافسة متزايدة على المستمعين، حيث يتوافر لدى الجمهور عدد كبير من الخيارات المتاحة لهم .
-انتشار الهواتف الذكية: أدى انتشار الهواتف الذكية في كل مكان إلى تغيير طريقة وصول الناس إلى الوسائط واستهلاكها، فمع ظهور تطبيقات الهاتف المحمول والاتصال بالإنترنت، أصبح لدى الأفراد الآن مجموعة لا مثيل لها من خيارات الترفيه المتاحة لهم .
-التحولات الديموغرافية: أدت التحولات الديموغرافية والتفضيلات المتغيرة بين الأجيال الشابة إلى تفاقم التحديات التي يواجهها الراديو، فغالبًا ما يعطي جيل الألفية والجيل Z -الذين نشأوا في عالم رقمي بشكل متزايد-، مما يعزز تفضيل خدمات البث والبودكاست التي تقدم توصيات مخصصة ورواية قصص غامرة .
-على الرغم من هيمنة الوسائط الرقمية وخدمات البث المباشر، فإن صناعة الراديو التقليدية لاتزال قوية وتُظهر إمكانات نمو واعدة، حيث تشير التوقعات العالمية إلى أن صناعة الراديو ستحافظ على حجم سوقي قوي قدره 11.76 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2027، بالإضافة إلى ما يقدر بنحو 224 مليون مستمع في الولايات المتحدة بحلول عام 2027.
لمواجهة زخم التطور التكنولوجي والانتشار الواسع للمنصات الرقمية بمزايا مختلفة، شهدت المحطات الإذاعية تحولاً كبيرًا من خلال عدد من الإجراءات من بينها :
-تبني تقنيات جديدة: عمدت الإذاعة إلى تبني تقنيات جديدة تتلاءم مع تغيير تفضيلات وسلوكيات المستمعين، وكان أحد الابتكارات الرئيسة التي تم تقديمها هو "البودكاست"، فقد أصبحت المدونات الصوتية (البودكاست) تحظى بشعبية كبيرة في السنوات الأخيرة، وتستفيد محطات الراديو من هذا الاتجاه من خلال إعادة توجيه محتوى البث إلى حلقات حسب الطلب، وهذا يوسع نطاق وصولهم والدخول إلى سوق البودكاست، ما يسمح بتلبية احتياجات جمهور أوسع .
-التكيف مع تغير سلوكيات المستهلك: أثبتت الصناعة قدرتها على التكيف والتطور مع تغير سلوكيات المستهلك، حيث أتاح دمج الأجهزة التي تعمل بالصوت ومكبرات الصوت الذكية إمكانية الوصول إلى محطات الراديو من خلال الأوامر الصوتية، وقد أدى هذا إلى تحول كبير في كيفية استهلاك الأفراد لمحتوى الراديو، باستخدام أمر صوتي بسيط، يستطيع المستمعون الآن الاستماع إلى محطة الراديو أو برنامجهم المفضل من أي مكان في العالم
-توظيف منصات وسائل التواصل الاجتماعي: استفادت صناعة الراديو أيضًا من منصات وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع مستمعيها. وقد مكنهم ذلك من إنشاء تجربة استماع أكثر تفاعلية وشخصية لجمهورهم؛ حيث زودت منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر، وفيسبوك، وإنستجرام محطات الراديو بطرق جديدة للتواصل مع مستمعيها، والترويج لمحتواها .
التحولات التي شهدتها الإذاعة والمزايا التي جعلتها تحافظ على مكانتها :
-التعاون مع منصات أخرى والمشاركة في الأحداث الحية: غامرت محطات الراديو بالمشاركة في الأحداث الحية والحفلات الموسيقية والتعاون مع منصات الوسائط الأخرى، ومن خلال الاستفادة من التعرف على علامتها التجارية وتأثيرها على الجمهور، تعمل محطات الراديو على خلق مصادر دخل جديدة وفرص للنمو .
-المحتوى المتصل بالموقع (Location-Specific Content): إحدى نقاط القوة في صناعة الراديو هي قدرتها على توفير محتوى محلي، حيث يمكن للراديو التقليدي تقديم معلومات في الوقت الفعلي مصممة خصيصًا لموقع الأفراد، سواء أكانت تحديثات حركة المرور، أو تقارير الطقس، أو الأحداث المجتمعية، فإن محطات الراديو المحلية دائمًا ما تكون على دراية بما يحدث في مناطق الأفراد .
-المحتوى المتعلق بالتفضيلات الشخصية (Personalized Content): الراديو التقليدي يعد أيضًا وسيلة رائعة في تقديم محتوى مخصص، فمع وجود مجموعة واسعة من المحطات التي تلبي كافة الاهتمامات يمكن للمستمعين بسهولة العثور على برنامج يناسب أذواقهم، فهناك محطة مثالية لكل فرد .
-اتصال جذاب وأصيل: كان الراديو وسيلة شعبية لعقود من الزمن ولسبب وجيه. يمكنها إنشاء اتصال جذاب وحقيقي مع مستمعيها، وهو ما تكافح الأشكال الأخرى من وسائل الإعلام لتكراره. وذلك لأن الراديو يحفز الخيال والعواطف من خلال الصوت وحده بدلاً من الاعتماد على الوسائل البصرية. ونتيجة لذلك، فهو يعزز رابطة عاطفية قوية مع الجمهور .