تصفية «حق العودة» وتحديد مسارات ما بعد العدوان.. خطة إسرائيل من استهداف الأونروا
مع امتداد أمد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة للشهر الرابع، واستمرار العمليات العسكرية التي تستهدف المدنيين، بالإضافة إلى استهداف البنى التحتية وتدمير القطاع الصحي نفاذًا لسياسة "الأرض المحروقة" دون وضوح نتائج جيوعسكرية لحجم المنجز الإسرائيلي تجاه الفصائل الفلسطينية أو قياداتها داخل شريط غزة أو في الضفة الغربية، لا تزال العديد من الأسئلة المطروحة عن بنك الأهداف الحقيقي على المستوى الاستراتيجي لقادة اليمين المتطرف بحكومة نتنياهو.
في المقابل، نجد أن العمليات التي تنفذها الأذرع الاستخباراتية لتل أبيب، من استهداف قيادات تلك الفصائل في خارج فلسطين، تكون غاية في الدقة ودون إيقاع ضرر يتسع عن حجم شقة سكنية؛ ما يبرهن بالدليل الدامغ على أن ما يرتكب في الضفة الغربية وغزة هي عمليات "إبادة جماعية" وفقًا للتعريف الأممي والتاريخي لهذا الفعل؛ لاسيما بعد أن اقترب عدد الشهداء من المدنيين 30 ألفًا وتجاوز عدد المصابين الـ60 ألفًا وهي حصيلة تمثل استهداف خُمس المواطنين، وسفك دماء قد يملأ 1000 برميل نفط وفق السعة العالمية.
تقارير مراكز الدراسات الأمريكية، تصب في بوتق من حرص إسرائيل على تحديد الخيارات والسيناريوهات التي يمكن أن تٌطرح في اللحظة التالية على وقف العمليات العسكرية ضد الشعب الفلسطيني، سواء عبر مسميات وقف إطلاق النار أو هدنة إنسانية تمهد للاحتكام إلى طاولة المفاوضات، عبر أوان مستطرقة لا تصل في أزهى أحلامها إلى الاقتراب من الاعتراف بدولة مستقلة للفلسطينيين.
استهداف الأونروا
وجاء استهداف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى الأونروا وفق خطة ممنهجة تعود لما يربو عن الخمس سنوات لصالح هدف واحد وهو تصفية شق "حق العودة للاجئين" إلى أراضيهم وفي إطار "التصفية الشاملة للقضية الفلسطينية".
وسردًا لاستهداف الوكالة الأممية، من الوضع القائم بتعليق الولايات المتحدة، تبعها بعض دول أخرى، تمويل "الأونروا"؛ وذلك حتى نهاية الشهر الجاري، إلى الخطة الكاملة لوقف عمل الوكالة التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1949 عقب نكبة فلسطين، ويشمل نشاطها محيط 4 دول هي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، بإجمالي نحو 5.9 مليون لاجئ فلسطيني يعتمدون عليها في مقومات الحياة التي يعيشونها تحت خط الفقر.
تفيد التقديرات المعلنة للاستخبارات الأمريكية – عبر موقعها الإلكتروني - أن إجمالي اللاجئين الفلسطينيين في الدول التي يشملها العمل الرئيس للأونروا لا يتجاوز 3.5 مليون لاجئ، أغلبهم في الأردن بنحو 2.4 مليون، تليها سوريا بإجمالي 580 ألفًا، ثم لبنان بنحو 487 ألفًا.
على الجانب الآخر كانت الموازنة المستهدفة للوكالة الأممية في مطلع عام 2023، تصل إلى 1.6 مليار دولار أمريكي حتى تتمكن من استمرار عملها وتحقيق نصف الأهداف الكاملة لخطتها، وشهدت هذه الفترة تلكأ الدول الداعمة للأونروا في أداء التزاماتهم لها؛ ما هدد عملها بالعرقلة أو التعطيل وذلك قبل أشهر طويلة من شرارة تصاعد الأحداث التي انطلقت في 7 أكتوبر الماضي، ليسري نارها في هشيم المخيمات ومدارس ومستشفيات الأونروا على طول قطاع غزة، وذلك لما نشرته وكالة أنباء رويترز البريطانية.
تطابق موقف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الديمقراطية، مع غريمه الجمهوري دونالد ترامب خلال إدارتهما لهذا الملف في البيت الأبيض، وذلك بشأن وقف وتعليق الدعم المالي للولايات المتحدة إلى وكالة الأونروا، رغم تحذيرات سابقة من وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، الصادر في عام 2018 بمغبة وقف تمويل تلك الوكالة وأنه سيؤثر بشكل مباشر على تأجيج وتوسعة دائرة الصراع في الشرق الأوسط، وفقًا للما تداولته الصحف آن ذاك.
دونالد ترامب، استجاب لنصائح مستشاره وصهره جاريد كوشنر المؤيد للسياسات الإسرائيلية ومهندس التطبيع الشرق أوسطي والاعتراف الغربي بالقدس كعاصمة لإسرائيل، بالمخالفة للتقارير التي تحذر من هذا القرار، ليصدر قرارًا في أغسطس 2018 بخفض الدعم الأمريكي – الذي يمثل ثلث ميزانية الوكالة – من 365 مليون دولار، إلى 125 مليون دولار انتهى لتقديم 60 مليون دولار منهم فقط.
وفي 2024، جاء قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن، بتعليق دعم الأونروا على خلفية اتهام إسرائيل لـ12 موظفًا سابقين من الوكالة الأممية بالضلوع في هجمات السابع من أكتوبر الماضي، سبق وتم تسريحهم، وذلك دون دليل أو سند؛ على الرغم من إعلان أنطونيو جوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة، بفتح تحقيق في المسألة دون استجابة من الدول التي أوقفت الدعم المالي.
ولا تمثل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين، سوى واجهة الخطة الإسرائيلية الكاملة من أجل تعويق عمل كل البعثات الأممية متعددة الجنسيات ليكون البديل عنه وكلاء الدول عبر مبعوثيهم لتنسيق المفاوضات الإغاثية والإنسانية ووضع السياسات العريضة وتقديم الدعم المالي دون تواجد على الأرض لرصد الانتهاكات أو آليات تفعيل السياسات لتظل المساحات الضبابية لاستكمال الإدعاءات والمزاعم الإسرائيلية بكونها لا تزال دولة مهددة في محيطها الإقليمي.
واللافت أن بعض التصريحات الصادرة عن تل أبيب مؤخرًا، ونشرتها الصحف الإسرائيلية، والمتعلقة باستبدال عمل وكالة الأونروا بالجيش الإسرائيلي، ليكون المعتدي ومقدم المساعدات في سردية تواصل الاستفزاز والدعاية لتحقيق المستهدف بلعب دور الشرير القوي لدى الدوائر القومية في الشرق الأوسط، والمستضعف والمضطهد لدى الدوائر الغربية.
ويبدو أن كبيرة منسقي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة سيجريد كاخ، ستقضي فترتها من العمل الدبلوماسي المكتبي، دون التوصل إلى تفعيل دورها الذي أناط بها ملف "إعادة الإعمار"؛ خاصة في ظل ما تعده حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية من بنود ستكون واقع الحال في لحظة التفاوض.
سيناريوهات تل أبيب المرتقبة
وستنحصر السيناريوهات التي ستفرضها تل أبيب على المفاوضات التالية على انتهاء العدوان، لتشمل مرحلة انتقالية تمتد من 4 إلى 5 سنوات، يتم خلالها التحقق من تطهير قطاع غزة من "الفصائل الإرهابية" وفق تسمية مجلس الأمن وواشنطن وحلفائها، بما ينهي حاجة إسرائيل استخدام "الحق في الدفاع عن نفسها"، وكذلك إجراء انتخابات ديمقراطية لاختيار سلطة فلسطينية تمارس دورها في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومعاونة جهة أمنية "خارجية" ومشاركة مراقبين إسرائيليين؛ لمتابعة الوضع الأمني وملاحقة "الإرهابيين".
وسيكون رهان إسرائيل على هذا الطرح هو عدة محاور رئيسية أولها إجراء مفاوضات تمهيدية عبر وسطاء دوليين، ثم إطالة أمد التفاوض حال تحرك أي فعل عسكري مما يسمى بـ"محور المقاومة"، يليها تعهدات دولية وتشبيك عربي لاستكمال المفاوضات، ثم التعويل على رفض "القوميين" لإجراء انتخابات برغبة إسرائيلية وإقصاء فصائل "المقاومة" بما يعني فشل المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية.
وتظل هناك عدة عوامل لها أثر جانبي قد يلعب دورًا في مجريات الأحداث، أولها متعلق بالداخل الإسرائيلي واستمرار المسيرات والاحتجاجات المناهضة لإدارة ملف "المحتجزين" والمطالبة بوقف إطلاق نار والتوصل لتفاوض بشأن استعادتهم، وكذلك أزمة التجنيد الإلزامي، والدعاوى التي تزايد عددها أمام المحكمة العليا الإسرائيلية والتي تمثل غريم سياسي لنتنياهو.
كل تلك العوامل قد تلحق ضررًا وإن كان جانبيًا بالخطة الإسرائيلية؛ خاصة مع تكرار تواترها بين وسائل الإعلام الإسرائيلي ووصول أنبائها إلى الإعلام الغربي حيث الحشود الشعبوية الأوروبية التي باتت تناهض العدوان الإسرائيلي إمعانًا في السردية العربية، ونبذًا لعمليات سفك الدماء.
الحراك الشعبوي الأوروبي؛ خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية، وزاد عليها تهديدات سلاسل الإمداد بفعل استهداف السفن التجارية في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وكذلك صعود أحزاب "الخضر" في المجلس والبرلمان الأوروبي، ليس بمؤثر مباشر على زعماء تلك الدول بقدر من إحداثه ضجيج مزعج يتزامن مع استحقاقات انتخابية هي الأكثر كثافة على وجه الأرض هذا العام، تصل إلى 70 انتخابات حول العالم، وعلى رأسها انتخابات الرئاسة بقطبي العالم روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
الأحداث التي شهدها قطاع غزة - الذي لا يتجاوز مساحته الـ365 كم2 – من دموية وإبادة جماعية، هو المؤشر الأوضح على انتهاء دور المنظمات الدولية على رأسها "عصبة الأمم" أو بمسماها المعروف "الأمم المتحدة" التي نشأت بعد حربين عالميتين ما أكد عدم اتحاد هذه الأمم، وسقوط أدوار منظمات دولية أخرى لم تمارس دورها الإنساني وعلى رأسها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بما يؤكد أن العالم سيشهد تحولات عظمى في إعادة تنظيمه الحداثي لإنتاج واجهة جديدة لديها آليات مستحدثة لإعادة ضمير الشعبوية الإنسانية من اليقظة إلى الارتكان للمنظومة الجديدة.