عمرو الخياط يكتب: السلام الاستراتيجي
نشر
على أرض سيناء لطالما خضبت الدماء المصرية دروبها وسهولها في مواجهة العدو الصهيوني، ولازالت الدماء تسلم الدماء التي تسيل الآن على نفس الأرض، ولكن بأيدي عصابات الاٍرهاب التي لها امتداد وظهير لوجيستي مع بعض الجماعات في قطاع غزة، والتي راحت من قبل تقتل وتقتتل، فضيعت المقاومة وشتتت القضية وأفرغتها من مضمون النضال من أجل الوطن إلى سطحية الصراع على السلطة.
هنا تظهر كلمة السر " تنظيم الإخوان " الذي راح رئيسهم المتخابر محمد مرسي يخاطب شيمون بيريز بوصفه صديقه العزيز في رساله رسمية، وراحت جماعته تمهد الطريق لاقتطاع جزءًا من أرض سيناء، ليكون امتدادًا لقطاع غزة ومحلًا لدولة بديلة على حساب السيادة المصرية التي لا يعترف التنظيم بها، هذه حقائق ثابتة في ملفات قضايا فصل فيها القضاء المصري.
على مدار السنوات وفي عشرات اللقاءات لطالما بذلت الدبلوماسية المصرية سرًا وعلانية جهودًا مضنية من أجل المصالحة بين الفصائل الفلسطينية بهدف تثبيت قاعدة وطنية فلسطينية موحدة ترتكز عليها القضية، لكن المصالح الضيقة والأيديولوجيات الدينية فككت هذه القاعدة فبدت القضية كمن لا صاحب له، ووجدت إسرائيل فرصتها التاريخية للتمدد في مساحات الصراع الذي وصل إلى حد القتال.
منذ سنوات أخذ الرئيس أنور السادات زمام المبادرة وتحرك نحو عملية سلام تضمن للفلسطينيين حقهم في دولة لها حدود ولها سيادة، لكن مبادرته تبددت بدعاوى المقاطعة لمصر آنذاك، ولم يتحرك أحد خطوة واحدة منذ ذلك الحين، بينما أسست إسرائيل دولتها وفرضتها على الجسد العربي، وراحت أطراف المقاطعة تتصل وتتواصل بكل أشكال التطبيع، وكلما تعثرت القضية لا تخلد إلا مصر.
في تاريخ القضية الفلسطينية لا مجال للمزايدة على الدماء المصرية، فمصر هي من حاربت وبذلت الدماء وقدمت الشهداء ولم تترك سبيلًا للسلام إلا وقد سلكته، لكن عملية السلام الرامية لإيجاد دولة فلسطينية هي عملية استراتيجية طويلة المدى تتحقق خطواتها واحدة تلو الأخرى بقوة فعل التوحد العربي وليس بالشعارات والخطب الرنانة التي يطلقها من لم يحارب أو يدفع ثمنًا لهذه الحرب من دماء أبنائه ومن رصيد بنيته التحتية والاقتصادية والسياسية.
عملية السلام أساسًا هي عملية إتاحة للعيش الآمن في ظل الفرص الممكنة والإمكانيات المتواجدة، والتي يمكن استخدامها استخدامًا واقعيًا، أما قرار المواجهة والمغامرة غير المحسوبة فإن كلفته باهظة، ولايمكن أن تكون دعوات القتال مفتوحة حتى آخر جندي مصري.
طوال سنوات نضالها من أجل القضية الفلسطينية لم تبرح حقوق الفلسطينيين مكانتها السامية في ذهنية الدبلوماسية المصرية التي راحت تتعامل من منطلق ثابت عنوانه " حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم " ، ولم تتورط مصر مرة واحدة في ممارسة الضغط الإيجابي عليهم أو حتى بالتخلي والترك من أجل إجبارهم على قبول أي وضع لا يناسب طموحاتهم، بل راحت تدفع لنجاح أي فرصة اختارها الفلسطينيون ولم تتوقف عن المسير إلا من أجل العودة لنقطة تعطل ذاتي أحدثتها الخلافات بين قطبي القضية من قادة حركتي " فتح" و" حماس " الإخوانية.
هذه حقيقة دبلوماسية مصرية تقول بإن مصر لن تقبل المساواة على حقوق الفلسطينيين، ولن تكون طرفًا في أي تسوية تتم بغير إرادة الفلسطينيين وتضمن حقوقهم المشروعة كاملة.
في كل مرة تتاح فرصة للسلام، فإن مصر تتخذ هدفًا ثابتًا، وهو تحقيق أقصى قدر ممكن من المصالح الفلسطينية التي يحددها الفلسطينيون بأنفسهم ودون أن تسمح لأطراف إقليمية بمداعبة أحلام الفلسطينيين بما لا يتناسب مع إمكانياتهم العملية، مثلما تفعل قطر بينما هي تفتح مكتبًا للتمثيل التجاري الإسرائيلي على أرضها.
في ملفات الدبلوماسية المصرية تقع القضية الفلسطينية في صلب ثوابت الأمن القومي المصري، ولم تكن أبدًا أداة تستخدم من أجل الابتزاز الإقليمي أو جمع التبرعات ومراكمة الثروات على جثث الفلسطينيين.
لا مجال هنا للمزايدة على موقف مصر من منطلق فرضيات استباقية ستتحول تدريجيًا إلى وسيلة للهجوم على النظام السياسي دون أن تطرح رؤية للحل أو حتى لإمكانية المقاومة.
لا مجال هنا لمنح تنظيم الإخوان قبلة الحياة من أجل العودة لاحتلال مساحات النسيان في الذاكرة المصرية، هو نفس التنظيم الذي حكم طوال عام ولم يكن لديه أي تصور للحل سوى بتفكيك القضية على حساب الأرض المصرية من منطلق أممية المشروع الإخواني الذي لا يعرف قيمة للدولة الوطنية التي قامت ثورة ٣٠ يونيو من أجل حمايتها.
فلنواجه الواقع المؤلم الذي رسخت فيه إسرائيل تواجد دولتها، بينما تتمدد مستوطناتها يوميًا على حساب الأرض الفلسطينية، وتحتل اللافتات العبرية شوارعها لتطمس هويتها العمرانية والاجتماعية، فلنواجه الحقيقة مواجهة عقلية بعيدة عن المشاعر والشعارات والمزايدات، لنتأكد أن أي فرصة للتفاوض هي فرصة لتوحد عربي من أجل وضع تصور لإعادة أحياء القضية بعد أن ظلت سنوات كالمعلقة فلا إمساك دبلوماسي بالمعروف ولا تسريح بإحسان بل مزايدات من أجل مواقف سياسية محلية ومن أجل أرصده بنكية.
وسط المزايدات لا تحيد مصر عن تحويل أي بارقة أمل إلى منهج عمل يحقق مصالح الفلسطينيين ويحفظ حقهم في دولة آمنة.
وسط المزايدات لا تخطو مصر خطوة واحدة إلا وراء الإرادة الفلسطينية الكاملة التي تؤمن مصر أنها لن تتحقق إلا بالمواجهة المباشرة بين طرفي الصراع دون تدخلات إقليمية تعلي مصالحها على مصالح الشعب الفلسطيني، ثم تقدم له المعونات من منطلق الصدقة السياسية.