«عملاق الدبلوماسية الأمريكية».. هنري كيسنجر صاحب رؤية سياسية أم داعية حرب؟
توفي عملاق الدبلوماسية الأمريكية وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر عن مائة عام الأربعاء، بحسب ما أعلنت مؤسسته.
وقالت المؤسسة الاستشارية في بيان إن كيسنجر الذي كان وزيراً للخارجية في عهدي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وأدى دورا دبلوماسيا محوريا خلال الحرب الباردة "توفي اليوم (الخميس) في منزله بولاية كونيتيكت".
وولد كسنجر في جنوب ألمانيا عام 1923، حيث كان والده مدرسا، وفرت عائلته من ألمانيا النازية، وجاءت إلى الولايات المتحدة وفق ومؤسسته الاستشارية.
وأضافت: "بعد أن أصبح مواطنا أمريكيا في عام 1943، خدم في فرقة الجيش الرابعة والثمانين من عام 1943 إلى عام 1946، وحصل على النجمة البرونزية لخدمته الجديرة بالتقدير، وكذلك انضم بعد ذلك إلى فيلق الاستخبارات المضادة في ألمانيا، حتى عام 1959".
وقالت إن جنازته ستجرى في مراسم عائلية خاصة، على أن تتبعها في وقت لاحق مراسم تأبين عام في مدينة نيويورك.
وأطلق كيسنجر عجلة التقارب بين واشنطن وكلّ من موسكو وبكين في سبعينيات القرن الماضي، وقد حاز في 1973، تقديراً لجهوده السلمية خلال حرب فيتنام، جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الفيتنامي لي دوك ثو.
وبينما أشاد كثيرون بكيسنجر لتألقه وخبرته الواسعة، وصفه آخرون بأنه مجرم حرب لدعمه الديكتاتوريات المناهضة للشيوعية؛ خاصة في أمريكا اللاتينية.
وكانت جائزة السلام التي حصل عليها عام 1973 ـوالتي مُنحت له مناصفة مع لو دوك ثو من شمال فيتنام والذي رفض الجائزةـ واحدة من أكثر الجوائز إثارة للجدل على الإطلاق.
واستقال عضوان من لجنة نوبل بسبب الاختيار إثر ظهور تساؤلات بشأن قصف أميركي سري لكمبوديا.
سياسي مميز
ظلّ كيسنجر حتى وفاته فاعلاً على الساحة السياسية الدولية ولم يثنه تقدّمه في السنّ عن السفر ولقاء العديد من قادة العالم، وكان آخرهم الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي التقاه في يوليو الماضي في الصين.
ومن أبرز إنجازاته الإعداد لزيارة نيسكون للصين في عام .1972 وقد سافر كيسنجر إلى بكين في مهمة سرية للتمهيد لزيارة نيكسون وتطبيع العلاقات. وأصبح كيسنجر يعرف بأنه مهندس إعادة التقارب بين أمريكا والصين.
وناقش كيسنجر معاهدات نزع السلاح واتفاقيات السلام، وأصبح نجما إعلاميا تقريبا. مع ذلك، ترك كيسنجر بصمته في الكثير من الجوانب المثيرة للجدل في السياسة الخارجية الأمريكية.
ويؤثر على إرثه دوره في القصف السري لكمبوديا والاتهامات المتعلقة بدوره في الانقلاب العسكري في تشيلي .1973 كما أن هناك تساؤلات بشأن ما إذا كان كيسنجر سعى بالفعل لانهاء الحرب الفيتنامية، أم عمل على إطالتها من أجل زيادة فرص إعادة انتخاب نيكسون.
وطبع كيسنجر لعقود الدبلوماسية الأمريكية، إذ ظل فاعلا على الساحة السياسية الدولية.
ونشر موقع هنري كيسنجر صورة له مع عامي مولده ووفاته (1923 – 2023). وجاء في سيرة موجزة له على الموقع أنه “ساعد على تأسيس النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وقاد الولايات المتحدة خلال بعض أكثر تحديات السياسة الخارجية تعقيدا” .
واشتغل كيسنجر في المجال الأكاديمي، ثم أصبح مستشارا للسياسة الخارجية في حملات انتخابية لسياسيين أمريكيين، بينهم الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، الذي عينه مستشارا للأمن القومي ثم وزيرا للخارجية في إدارته، واحتفظ بمنصبه بعد استقالة نيكسون وإكمال الرئيس الأسبق جيرالد فورد فترته الرئاسية.
وحتى بعد مغادرته لمنصب وزير الخارجية، ظل لكيسنجر صوت مسموع في السياسة الخارجية الأمريكية، وشارك بنشاط في ندوات ومؤتمرات وتجمعات دولية.
هنري كيسنجر والشرق الأوسط
انفرد هنري كيسنجر بمشكلة الشرق الأوسط، وكان يعتقد أنه إذا ما أُريد لأي مفاوضات أن تنجح فلابد من أن تكون سرية، وكان السادات هو الآخر يتحرق شوقًا لنقل أفكاره سراً ومباشرةً إلى البيت الأبيض، لذلك انطلقت الدبلوماسية السرية.
آخر مؤلفات كيسنجر
وكان آخر مؤلفات البروفيسور كيسنجر كتاب يضم تحليلاً أكاديمياً لست شخصيات عالمية تولت قيادة بلدانها واختارها السياسي الأكاديمي كيسنجر زعامات فريدة، صاغت قناعاتها وإيمانها بسلوكها طريقاً غير عادي لعلاج أوضاعها المعقدة، بعضها تبنى مبادرات سابقة لعصرها.
كيسنجر والسادات
كما يتحدث كيسنجر عن مقدرة السادات في التعاطي مع السلبيات، ويشير إلى استمرار عمله مع الرئيس عبدالناصر من دون توقف ومن دون خلافات، بينما اختفى معظم رجال عبدالناصر بسبب اعتراضاتهم على إدارته لشؤون الدولة، وبقي السادات وحيداً عندما اختاره الرئيس عبدالناصر نائباً له عام 1969 قبل ذهابه إلى مؤتمر القمة العربي في المغرب.
تولى السادات السلطة عام 1970 واعياً لضيق الشعب المصري من استمرار الاحتلال وضرورة تحريك الوضع سياسياً أو عسكرياً مع إدراك لمحدودية الدور السوفيتي سياسياً وعسكرياً، مع مبادرة الاتصال بالولايات المتحدة التي بيدها الكثير من المفاتيح، ويذكر كيسنجر أن السادات أرسل ممثله الشخصي حافظ إسماعيل الذي التقى بالرئيس نيكسون والسيد كيسنجر، الذي لم يجد شيئاً جديداً في مهمة المبعوث المصري، رغم حسن النوايا التي أبرزها المبعوث.
ويتحدث كيسنجر عن حرب 1973، مبرزاً دبلوماسية واشنطن، وهي إفشال مساعي موسكو للعب دور في مسار الحرب، وذلك بتغطية جميع خسائر إسرائيل من الأسلحة وبسرعة، بحيث لا تتمكن مصر من تحقيق أي مكسب عن طريق القوة، كما يشير إلى زيارته إلى موسكو للاتفاق على وقف إطلاق النار بين إسرائيل ومصر مع طرح مشروع أميركي - سوفيتي لوقف الحرب أمام مجلس الأمن، وأنه ورغم وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر 1973، فإن إسرائيل استمرت في العبور من الثغرة المصرية لاكتمال الحصار على الجيش المصري في سيناء حتى يوم 24 أكتوبر.
يتحدث كيسنجر عن التبدلات التي حدثت في مواقف السادات، من الحرب والسلام حيث كان عام 1970 يتكلم عن استحالة الاعتراف بإسرائيل، ويتهم واشنطن بتحريك إسرائيل وفق مصالحها، بينما يشير كيسنجر إلى أن واشنطن لم تكن تعطي السادات أهمية في تبديل المواقف أو تبني خطوات غير عادية تبدل خريطة الوضع الراهن آنذاك، كما أن حسابات واشنطن بأن السادات لن يستمر مدة طويلة كرئيس، فهو لا يملك السحر الناصري، لكنه قادر على اتخاذ خطوات دراماتيكية مثل قراراته، بمنع مصادرة الأملاك الخاصة، كما أظهر استقلاليته عن المجموعة التي كانت وريثة عبدالناصر، ويتزعمها علي صبري وزير الداخلية، وشعراوي جمعة، وحافظ على الخط الذي تبناه الرئيس عبدالناصر تجاه إسرائيل، لكنه أدرك حتمية البحث عن مسار آخر تمثل في اقتراحه في فبراير 1971 بفتح قناة السويس إذا انسحبت إسرائيل من ضفة القناة إلى داخل إسرائيل، ثم يقرر إبعاد المستشارين الروس في يوليو 1972، بعد أن شعر بثقل تواجدهم على استقلالية قراراته، ومع ذلك فقد أدرك تباعد المواقف بينه وبين إسرائيل، التي تريد مفاوضات مباشرة، بينما السادات يريد قبول إسرائيل الانسحاب قبل الدخول في مفاوضات معها.
ومن هذا التباعد اقتنع السادات بضرورة حرب أكتوبر 1973، ويذكر كيسنجر أنه تلقى رسالة من الرئيس السادات في أول يوم من حرب أكتوبر يبلغه فيها بأن أهداف مصر محدودة، فبعد وقف إطلاق النار تبدأ الجهود لمفاوضات السلام، ويرد عليه كسينجر قائلاً بدأت الحرب بأسلحة سوفيتية وستصل السلام بالدبلوماسية الأميركية.
كان واضحاً أن السادات مع نهاية حرب أكتوبر طوى صفحات المواجهة وانتابه شيء من الإيحاء بأن خطواته القادمة تنشد السلام عبر لقاءات مملوءة بالنوايا الحسنة، يقودها بنفسه، متظللاً بهذه الإيحاءات التي جعلته لا يتوقف عند مشكلة حدود ولا عقدة تقرير المصير.
كان همه مصر بلا خدوش الاحتلال، وكل طرف من العرب الآخرين يعالج قضاياه، وفوق ذلك وضع ثقته في كيسنجر الذي أبلغه في بداية الاجتماعات بأن روسيا تعطيه سلاحاً وأمريكا تعطيه سلاماً.