«دار الإفتاء» توضح حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف
حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف هو ما يرغب في معرفته الكثيرون مع اقتراب موعد المولد النبوي الشريف، حتى لا يتم الوقوع في المحظور ومخالفة الشرع، ما يجعل من معرفة حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف أمرا مهما.
وورد إلى دار الإفتاء سؤال حول حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف، وأجاب عنه مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام باستفاضة عبر الموقع الرسمي لدار الإفتاء ليعرف الجميع حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف.
حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف
سأل يقول: اعتدت صيام يوم المولد النبوي الشريف شكرًا لله تعالى على هذه النعمة العظمى؛ فما حكم الشرع في ذلك؟
وأجاب مفتي الجمهورية: يوم مولد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو يوم تفضل الله تعالى به على العالمين بإيجاد خير الأنام، فاستحق لذلك مزيد فضل واعتناء وإظهار أبلغ معاني الشكر والثناء لله تعالى بالإكثار من الطاعات والقربات التي من أَجَلِّها قربة الصيام، كما استحق إظهار ما لهذه النعمة من أثر في النفوس من السعادة والسرور والحفاوة والاحتفاء والاحتفال؛ إذ يزيد فرح المؤمن بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم على فرحه بأيِّ حدث وبكل عيد.
وما اعتدته -أيها السائل- من صيام يوم المولد النبوي الشريف يُعَدُّ أمرًا مشروعًا، وفعلًا حسنًا، وهو من شكر المُنعِم على إنعامه، والمُحسِن على إحسانه، وهو أيضًا اقتداءٌ وتأسٍّ بأصل فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان يخص يوم الإثنين وهو يوم مولده الشريف بالصيام.
مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن أفضل الأعمال وأعظم القربات وأجلِّ الطاعات؛ لما فيه مِن التعبير عن الحب والفرح بمولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو أصلٌ مِن أصول الإيمان؛ حتى أقسم اللهُ عزَّ وجلَّ بحياته؛ فقال في كتابه العزيز: ﴿لَعَمْرُكَ﴾ [الحجر: 72].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» أخرجه الشيخان.
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (1/ 48، ط. مكتبة الغرباء الأثرية): [محبَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن أصول الإيمان، وهي مقارِنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها اللهُ بها، وتَوَّعَدَ مَن قدَّم عليهما محبَّة شيء مِن الأمور المحبَّبة طبعًا مِن الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك] اهـ.
والمراد مِن الاحتفال بذكرى المولد النبوي: تجمع الناس على ذكره، والإنشاد في مدحه والثناء عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وقراءة سيرته العطرة، والتَّأسي به، وإطعام الطعام على حبه، والتصدق على الفقراء، والتوسعة على الأهل والأقرباء، والبر بالجار والأصدقاء؛ إعلانًا لمحبته، وفرحًا بظهوره وشكرًا لله تعالى على منته بولادته، وليس ذلك على سبيل الحصر والاختزال، بل هو لبيان الواقع وسَوْقِ المثال.
مشروعية الصيام فرحًا بميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مِن جملة الأمور التي يُشرَع فعلها احتفالًا بهذه المناسبة العظيمة: صيام يوم مولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم؛ ذلك أنَّ الشارع قد حثَّ على الصيام على جهة الإطلاق ورغَّب فيه، وجعل صوم التطوع مندوبًا إليه إلا ما استثناه بالنص عليه، وعظَّم أجره وثوابه، بل أفرد للصائمين بابًا من أبواب الجنة لا يدخل منه أحدٌ إلا هُم، وعلى هذا تواترت الأخبار؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ؛ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» أخرجه مسلم في "صحيحه".
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» أخرجه الشيخان.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» أخرجه مسلم في "صحيحه". وقوله: «فِي سَبِيلِ اللهِ»: "أي: في طاعته؛ يعني قاصدًا به وجه الله تعالى؛ كما قال الحافظ السيوطي في "شرحه على صحيح مسلم" (3/ 234، ط. دار ابن عفان).
ومِن المقرر أنَّ الأمر المطلق يصح إيقاعه على أيِّ وجهٍ كان؛ فالأمر فيه واسعٌ، وإذا شرع الله سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق وكان يحتمل في فعله وإيقاعه أكثرَ مِن وجهٍ؛ فإنه يُؤخَذ على إطلاقه وسعته، ولا يصح تقييده بوجهٍ دون وجهٍ إلَّا بدليل، وإلا كان ذلك هو الابتداع في الدين بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وصيامُ يوم مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الخصوص مشروع من حيث الأصل بما تواردت عليه النصوص الشرعية؛ شكرًا واحتفاءً بمولده صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث ورد الأمر الشرعي بالتذكير بأيام الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5]، ومِن أيام الله تعالى: أيامُ الميلاد؛ إذ تجلَّت فيها نعمة الإيجاد، وأعظمها يوم ميلاد النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يصوم يوم عاشوراء ويأمر بصيامه شكرًا لله تعالى على نجاة أخيه سيدنا موسى عليه السلام.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومَه، وغرَّق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فصامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ" أخرجه الشيخان.
وفي رواية: أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجُودِيِّ، فصام نوحٌ وموسى شكرًا لله" أخرجه الإمام أحمد في "المسند" مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإذا كان الشكرُ بصيام اليوم الذي نجَّى الله فيه سيدنا نوحًا عليه السلام ونصر فيه سيدنا موسى عليه السلام مستحبًّا؛ فإنَّ صيام اليوم الذي ولد فيه خير البشر أرغبُ وأولى بالصيام مِن غيره؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد كرّم يوم الولادة في كتابه وعلى لسان أنبيائه وأصفيائه؛ فقال سبحانه في حق سيدنا عيسى عليه السلام: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ [مريم: 15]، وقال جلَّ شأنه على لسان السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ﴿وَالسَّلَامُ عليَّ يَومَ وُلِدْتُ﴾ [مريم: 33]، وذلك أنَّ يوم الميلاد حَصَلَت فيه نعمةُ الإيجاد، وهي سبب لحصول كل نعمة تنال الإنسان بعد ذلك، فما بالنا بيوم ميلاد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو سبب لكل خير ونعمة ننالها في الدنيا والآخرة، فكان تذكُّره والتذكير به مِن أعظم أبواب شكر نعم الله تعالى على الناس.
قال شمس الدين السخاوي الشافعي في "الأجوبة المرضية" (3/ 1117-1118، ط. دار الراية)، والعلامة الشرواني الشافعي في "حاشيته على تحفة المحتاج" (7/ 422-423، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [سُئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر عن عمل المولد.. قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت؛ وهو ما ثبت في "الصحيحين" مِن "أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدِم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم، فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى؛ فنحن نصومه شكرًا لله تعالى"، فيستفاد منه فِعْلُ الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم مُعَيَّن مِن إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير هذا اليوم مِن كلِّ سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة؛ كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيُّ نعمة أعظمُ مِن النعمة ببروز هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أنْ يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومَن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أيِّ يوم مِن الشهر] اهـ.
بل قد شرع لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصيام يوم مولده شكرًا لله تعالى على إيجاده وعظيم مِنَّتِه وحمدًا له على بعثته؛ مصداقًا لقول المولى الجليل في محكم التنزيل: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: 164].
فعن أبي قتادة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئِل عن صوم يوم الإثنين، فقال: «ذاكَ يَومٌ وُلِدتُ فِيهِ» أخرجه مسلم في "الصحيح"؛ فهذا الحديث أصلٌ في إيذان مشروعية الصوم يوم ميلاده؛ شكرًا لله تعالى على نعمة إيجاده، والأَوْلى بالأُمَّة الاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم بشكر الله تعالى على عظيم منَّته وكريم منحته بكل أنواع الشكر وعلى رأسها الصيام.
أقوال العلماء في تعظيم يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
نصَّ جمهور العلماء على أنه يُنْدَبُ تعظيم يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبراز الشكر له؛ وذلك بصيامه والإكثار مِن الذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن ونحو ذلك من مظاهر الشكر والتعبد لله احتفاءً بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما جرى عليه عمل أهل الأمصار.
فحكى مفتي مكة المكرمة قطب الدين النهروالي الحنفي [ت: 990هـ] في "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" (ص: 196، ط. العامرة العثمانية) عملَ أهل مكة في زيارة موضع ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة المولد المحمدي؛ فقال: [ويُزار في الليلة الثانية عشر من شهر ربيع الأول كل عام، فيجتمع الفقهاء والأعيان على نظام المسجد الحرام والقضاة الأربعة بمكة المشرفة بعد صلاة المغرب بالشموع الكثيرة والمفرغات والفوانيس والمشاعل، وجميع المشايخ مع طوائفهم بالأعلام الكثيرة، ويخرجون من المسجد إلى سوق الليل، ويمشون فيه إلى محل المولد الشريف بازدحام.. ويأتي الناس من البدو والحضر وأهل جدة وسكان الأودية في تلك الليلة، ويفرحون بها، وكيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف لا يجعلونه عيدًا من أكبر أعيادهم] اهـ.
ثم ردَّ على المنكرين على ذلك تحت دعوى أنَّ ذلك لا يصحّ شرعًا وأنه بدعة لم تُحْكَ عن السلف؛ بأنه: [بدعة حسنة، تتضمن تعظيم النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن، وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم؛ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي سأله عن صوم يوم الإثنين: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ»، فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي هو فيه، فينبغي أنْ يحترم غاية الاحترام؛ ليشغله بالعبادة والصيام والقيام، ويُظهِرَ السرور فيه بظهور سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام] اهـ.
وقال الإمام ابن الحاج المالكي في "المدخل" (2/ 2-3، ط. دار التراث): [وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله تعالى به مِن العبادات التي تُفْعَل فيها؛ لِمَا قد عُلِمَ أنَّ الأمكنة والأزمنة لا تتشرف لذاتها، وإنما يحصل لها التشريف بما خُصَّتْ به مِن المعاني، فانظر -رحمنا الله وإياك- إلى ما خص الله تعالى به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أنَّ صومَ هذا اليوم فيه فضلٌ عظيم؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم وُلد فيه، فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أنْ يُكَرَّمَ ويُعَظَّمَ ويُحْتَرَمَ الاحترام اللائق به؛ وذلك بالاتباع له صلى الله عليه وآله وسلم في كونه عليه الصلاة والسلام كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات] اهـ.
وقد ساق كلامه على عمل المولد: الحافظ السيوطي الشافعي في رسالته "حسن المقصد في عمل المولد" المتضمنة في "الحاوي للفتاوي" (1/ 226-229، ط. دار الفكر)، والعلامة الصالحي في "سبل الهدى والرشاد" (1/ 371-372، ط. دار الكتب العلمية)، وصدَّرا ذلك بالثناء عليه بقولهما: [وقد تكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج في كتابه "المدخل" على عمل المولد، فَأَتْقَنَ الكلام فيه جدًّا] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" (ص: 95-96، ط. دار ابن حزم): [وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن صيام يوم الإثنين: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وأُنْزِلَت عَلَيَّ فيه النُّبُوَّة» إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله على عباده، فإنَّ أعظمَ نعم الله على هذه الأمة: إظهارُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وبعثته وإرساله إليهم؛ كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، فإنَّ النعمة على الأمة بإرساله، أعظمُ مِن النعمة عليهم بإيجاد السماء والأرض والشمس والقمر والرياح والليل والنهار وإنزال المطر وإخراج النبات وغير ذلك.. فصيام يوم تجددت فيه هذه النعم مِن الله على عباده المؤمنين: حسن جميل، وهو مِن باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر، ونظير هذا: صيام يوم عاشوراء حيث أنجى الله فيه نوحًا مِن الغرق، ونجى فيه موسى وقومه مِن فرعون وجنوده وأغرقهم في اليم؛ فصامه نوح وموسى شكرًا لله، فصامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متابعةً لأنبياء الله، وقال لليهود: «نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ»، وصامه وأمر بصيامه] اهـ.
وقال الإمام الصنعاني في "سبل السلام" (1/ 581، ط. دار الحديث): [وعلَّل صلى الله عليه وآله وسلم شرعيةَ صوم يوم الإثنين بأنه ولد فيه، أو بعث فيه، أو أنزل عليه فيه، وكأنه شكٌّ مِن الراوي، وقد اتُّفق أنه صلى الله عليه وآله وسلم ولد فيه وبعث فيه، وفيه دلالة على أنه ينبغي تعظيم اليوم الذي أحدث اللهُ فيه على عبده نِعَمَهُ بصومه والتقرب فيه، وقد ورد في حديث أمامة تعليل صومه صلى الله عليه وآله وسلم يوم الإثنين والخميس بأنه يوم تُعرَض فيه الأعمال وأنه يحب أنْ يُعرَض عملُه وهو صائم، ولا منافاة بين التعليلين] اهـ.
التوفيق بين الصيام شكرًا لنعمة ميلاد النبي عليه السلام والإفطار فرحًا بذلك
لَمَّا كان ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظمَ النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده؛ ناسب ذلك أن يجري عليها كل المعاني التي حث الشرع الشريف عليها حيال ما ينعم الله تعالى به على عباده، ومن هذه المعاني: شكر الله تعالى على الإنعام، وإظهار الفرح ونشر السرور، والاعتناء بها بما اعتاده الناس في مثل ذلك.
ومن مرونة الفقه الإسلامي واتساعه: جاءت أقوال الفقهاء مناسبة لكلا المعنيين؛ فمنهم من ذهب إلى استحباب صيام يوم المولد النبوي الشريف تغليبًا لمعنى الشكر كما سبق ذكر بعضها، ومنهم من ذهب إلى استحباب إفطاره تغليبًا لمعنى الفرح وإظهار البهجة والسرور وتنزيلًا لذلك اليوم منزلة العيد؛ فالحقيقة أنَّ يوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم عيدٌ للإسلام؛ كما قال العلامة ابن الجزري في "عرف التعريف بالمولد الشريف" (مخطوط، ص: 237، وقف عبد الغفار شحاتة)، وأنَّ أفضل الليالي على الإطلاق: ليلة المولد الشريف؛ لما ترتب على ظهوره صلى الله عليه وآله وسلم فيها من النفع العميم والخير العظيم؛ كما قال العلامة الباجوري في "حاشيته على شرح العلامة الغزِّي على متن أبي شجاع" (ص: 404، ط. دار الكتب العلمية)، بل هو أَوْلى من العيدين وليلتهما؛ لأن شرفهما راجع لزمانهما، بينما مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتشرف بالزمان، بل الزمان هو الذي يتشرف به كالأماكن؛ كما قال نجم الدين الغيطي في "بهجة السامعين" (مخطوط، ل: 12، مكتبة جامعة الملك سعود)، وقد اعتاد الناس أن يظهروا فرحتهم واحتفالهم في أيام الأعياد بمظاهر من إقامتهم الولائم واجتماعهم على الطعام؛ فإنَّ اتخاذ الوليمة وإطعام الطعام مستحب في كل وقت؛ فكيف إذا انضم إلى ذلك الفرح والسرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف؛ كما نقله العلامة الحسن بن عمر بن الحاج إدريس عن الإمام أبي زرعة العراقي في "شفاء السقيم بمولد النبي الكريم" المطبوع ضمن "مجموع لطيف أنسي" (ص: 136، ط. دار الكتب العلمية)، ويصنعون فيها الحلوى ويتهادونها بهجةً وتوسعةً وفرحًا، فكيف إذا كان العيدُ مولدَ النبي الأكرم ذي الجناب الأعظم والمقام الأفخم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ" متفق عليه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فرحم اللهُ امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا؛ كما قال شهاب الدين القسطلاني في "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (ص: 90، ط. المكتبة التوفيقية).
وانطلاقًا من تلك المعاني السالف بيانها: ذهب بعض فقهاء المالكية إلى كراهة الصوم فيه؛ تغليبًا لمعنى العيد فيه، وما يلازمه من الفرح والسرور، ويقترن به مِن أنَّ يومَه يومُ أكل وشرب.
قال الإمام الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 406-407، ط. دار الفكر): [قال الشيخ زروق في "شرح القرطبية": صيام المولد كرهه بعض مَن قرب عصره ممَّن صحّ علمه وورعه؛ قال: إنه مِن أعياد المسلمين فينبغي ألَّا يُصام فيه، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرًا ويستحسنه. انتهى. (قلتُ): لعله يعني ابن عباد؛ فقد قال في "رسائله الكبرى" ما نصه: وأما المولد: فالذي يظهر لي أنه عيد مِن أعياد المسلمين وموسم مِن مواسمهم، وكل ما يفعل فيه ما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك.. ولقد كنتُ فيما خَلَا مِن الزمان خرجت في يوم مولدٍ إلى ساحل البحر، فاتَّفَقَ أنْ وجدتُ هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة مِن أصحابه وقد أخرج بعضهم طعامًا مختلفًا ليأكلوه هنالك، فلما قدموه لذلك، أرادوا مني مشاركتهم في الأكل، وكنتُ إذ ذاك صائمًا، فقلت لهم: إنني صائم، فنظر إليَّ سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي ما معناه: إنَّ هذا اليومَ يومُ فرح وسرور يُستَقبَح في مثله الصيام بمنزلة يوم العيد، فتأملتُ كلامه فوجدته حقًّا، وكأنني كنتُ نائمًا فأيقظني. انتهى] اهـ.
وقال الإمام الخرشي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 241، ط. دار الفكر): [وَكَرِهَ بعضٌ صَوْمَ يوم المولد؛ أَيْ: لأنه من أعياد المسلمين] اهـ.
وقال العلَّامة الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 518، ط. دار الفكر): [مِن جملة الصيام المكروه كما قال بعضهم: صوم يوم المولد المحمدي؛ إلحاقًا له بالأعياد] اهـ.
ولا يَخْفَى أنَّ تخصيص يوم المولد النبوي الشريف بإبراز مظاهر الاحتفال والاعتناء بما يلزم لذلك من الزينة والسرور هو أمرٌ حسنٌ شرعًا ومطلوبٌ عادةً وعرفًا؛ فنقل الإمام المؤرخ الصالحي في كتابه "سُبُلُ الهُدى والرشاد في سيرة خيرِ العِباد" (1/ 363، ط. دار الكتب العلمية) عن الإمام الشيخ أبي موسى الزرهوني -وكان من الصالحين-: [أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه، فشكا إليه مَن يقول ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن فرِح بنا فَرِحنا به»] اهـ.
قال الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (1/ 23، ط. دار الهدى) في بيان الحسن من البدع: [فالبدع الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمَن حسنت نيته فيها.. ومِن أحسن ما ابتُدِع في زماننا من هذا القبيل: ما كان يُفعَل بمدينة إربل -جبرها الله تعالى- كلَّ عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور؛ فإن ذلك -مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء- مشعرٌ بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله] اهـ.
ولا يُستشكل على القول بالكراهة في هذا المقام بما توارد من النصوص التي تستحسن صيامه؛ إذ يصحّ قياسه على الخلاف الوارد في صيام يوم عرفة الذي يُندب صيامه لمَن لم يحظ بمحفل الوقوف والاجتماع في عرفة، ويكره صيامه لمَن حظي بذلك الموقف الشريف.
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (1/ 173) في وجه تسمية يوم عرفة "عيدًا": [وقد جاء تسميته "عيدًا" في حديث مرفوع خرجه أهل "السنن" من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»، وقد أشكل وجهُه على كثير من العلماء؛ لأنه يدلّ على أن يوم عرفة يوم عيد لا يصام كما روي ذلك عن بعض المتقدمين، وحمله بعضهم على أهل الموقف وهو الأصح؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار؛ فإن اجتماعهم يوم النحر، وأما أيام التشريق فيشارك أهلُ الأمصار أهلَ الموسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نسكهم؛ هذا قول جمهور العلماء. وقال عطاء: إنما هي أعياد لأهل الموسم، فلا يُنهى أهل الأمصار عن صيامها. وقول الجمهور أصح] اهـ.
بل يوم المولد النبوي الشريف أَوْلى من يوم عرفة بالحظوة والتشريف؛ لتعلقه بخير البرية صاحب الشريعة وسيد الخلائق والخليقة صلى الله عليه وآله وسلم.
ومقتضى ما سبق، وبحسب ما بيَّنَّاه في توجيه قولَي الفقهاء في حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف: يظهر إمكان الجمع بينهما، وهو الأَوْلى من ترجيح أحدهما؛ لما تقرر في قواعد الشرع أنَّ "الْجَمْعَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ"؛ كما في "إرشاد الفحول" للإمام الشوكاني (1/ 401، ط. دار الكتاب العربي)، وأنَّ "إِعْمَالَ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 128، ط. دار الكتب العلمية)؛ فإذا ما صار من عادة الناس أن يجتمعوا للاحتفال بهذا اليوم ويُعِدوا لأجل ذلك صنوف الطعام والحلوى والشراب ويدعو بعضُهم بعضًا إلى المآدب؛ إظهارًا للفرح الغامر بنعمة استهلاله، وإبرازًا للسعادة المقبلة في إقباله: كُره الصيامُ لمَن يُدعى لمثل هذا الاحتفال أو يحضره.
بخلاف ما لو اعتاد بعض الناس على صوم هذا اليوم تأسيًا بصوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم مولده شكرًا واجبًا لله تعالى على نعمة إيجاده، أو كانت الدعوة إلى طعام الإفطار للصائمين: فإنه يستحسن حينئذ الصوم؛ فهذا مقام الشكر، وذاك مقام الفرح، وكلاهما معتبرٌ شرعًا.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فإنَّ يوم المولد النبوي الشريف هو يوم تفضل الله تعالى به على جميع الأنام بإيجاد خير الأنام، فاستحق لذلك مزيد فضل واعتناء وإظهار أبلغ معاني الشكر والثناء لله تعالى بالإكثار من الطاعات والقربات التي من أَجَلِّها قربة الصيام، كما استحق إظهار ما لهذه النعمة من أثر في النفوس من السعادة والسرور والحفاوة والاحتفاء والاحتفال؛ إذ يزيد فرح المؤمن بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم على فرحه بأيِّ حدث وبكل عيد.
وفي واقعة السؤال: ما اعتدته من صيام يوم المولد النبوي الشريف يُعَدُّ أمرًا مشروعًا، وفعلًا حسنًا، وهو من شكر المُنعِم على إنعامه، والمُحسِن على إحسانه، وهو أيضًا اقتداءٌ وتأسٍّ بأصل فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان يخص يوم الإثنين وهو يوم مولده الشريف بالصيام.