دار الإفتاء توضح حكم «النقوط» في المناسبات الاجتماعية
حكم النقوط في المناسبات الاجتماعية هو ما يرغب في معرفته البعض حتى لا يتم الوقوع في المحظور ومخالفة الشرع، خاصة أن تلك العادة قديمة في مصر، ما يجعل من معرفة حكم النقوط في المناسبات الاجتماعية أمرا مهما.
وورد إلى دار الإفتاء سؤال حول حكم النقوط في المناسبات الاجتماعية، وأجاب عنه مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام باستفاضة عبر الموقع الرسمي لدار الإفتاء ليعرف الجميع حكم النقوط في المناسبات الاجتماعية
سأل يقول: ما حكم الشرع فيما يعرف بين الناس بـ"النقوط" الذي يُقدَّم عند حدوث مناسبة عند إنسان آخر، هل هو دَيْنٌ واجب الرد أو هديةٌ لا يجب رَدُّها؟
وأجاب المفتي: الأصل في النقوط أنه عادةٌ مستحبةٌ، مبناها على تحقيق مبدأ التكافل بين الناس عند نزول المُلِمَّاتِ أو حدوث المَسَرَّات، بأن يبذل إنسانٌ لآخَر مالًا -نقدًا أو عَيْنًا- عند الزواج أو الولادة أو غيرهما مِن المناسبات، وذلك على سبيل المسانَدَة وتخفيف العبء أو المجامَلة، ويُرجَع عند النزاع بين أطرافه في كونه دَيْنًا واجب الأداء مَتَى طُولِب به، أو هبةَ ثوابٍ يُرَدُّ مِثلُها في مناسبةٍ نحوِها للواهب، أو هبةً محضةً يُستحب مقابلتُها بمِثلها أو أحْسَنَ منها مِن غير وجوب ولا إلزام، يُرجَع في ذلك كلِّه إلى أعراف الناس وعاداتهم التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ويَحكُمُ بها أهلُ الخبرة فيهِم.
حث الشرع الشريف على تقوية الروابط بين أفراد المجتمع
جاءت الشريعة الإسلامية بتوطيد الروابط الإنسانية بين أفراد المجتمع الواحد، بل بين الإنسانية كَكُلٍّ، فكان الأمرُ بالزكاةِ، والحثُّ على الصدقةِ، والنَّدبُ إلى التعاون، والترغيبُ في التآزرِ، والحضُّ على التهادي والتواهُبِ بين الناس، إذ إنَّ استقرار المجتمعات ونَهْضَتَها وتَفَوُّقَها لا يتحقق إلا إذا قَوِيَت روابطُ المَحَبة والإيثار بين أفرادها.
وتحقيق مبدأ التكافل بين الناس عند نزول المُلمّات أو حدوث المَسَرَّات يُعَدُّ أمرًا مطلوبًا شرعًا؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، والآية الكريمة فيها أمرٌ للمؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، والذي يشمل كلَّ وجوه الخير، كما في "تفسير القرآن العظيم" للإمام ابن كثير (2/ 12، ط. دار طيبة).
وقد أظهَر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا المعنى ورسَّخه بقوله: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه مِن حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ. متفق عليه مِن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، إلى غير ذلك مِن النصوص الواردة في هذا الباب.
بيان أن النقوط الذي يقدم في المناسبات من جملة التكافل والتعاون بين الناس
مِن جملة التكافل والتعاون بين الناس: ما يُقدِّمه بعض الناس لغيرهم من المال في المناسبات بصفة عامة، كالزواج والولادة ونحوهما، ويُعرَف هذا الفعل بين الناس بـ"النقوط".
وصورته: أن يبذل إنسانٌ مالًا لآخَر -نقدًا أو على هيئة شيءٍ عَيْنِيٍّ يُلائم المناسبة- عند العُرس أو الختان أو الولادة أو نحوها، وذلك على سبيل المجامَلة أو المساعَدة، بحيث إذا صار له نظيرُها انتَظَر رَدَّه عليه بمِثل ما بَذَله أو بنحوه، ويكون ذلك بإعطائه له مباشرةً يدًا بِيَدٍ، أو عن طريق متطوِّعٍ يَجمَعُ له النقوطَ ويَرُدُّه عليه، على حسب اختلاف الأماكن والطبائع والعادات.
والنقوط عادةٌ مستحبةٌ، تعارف الناسُ عليها منذ القِدَم، وعمِلوا بها في مختلف الأزمان؛ لما فيها مِن التقدير المادي والمعنوي فيما بينهم.
فأما التقدير المادي: فما يترتب عليها مِن تخفيف الأعباء المالية التي تُخَلِّفها مِثلُ هذه المناسبات، ومعاونة صاحبها وتلبية ما يحتاجه فيها مِن النفقات والطلبات، ومساندته.
وأما التقدير المعنوي: فما فيها مِن جبر الخواطر، والمواساة، وتأليف القلوب بين الناس، فإن القلوبَ مجبولةٌ على حُبِّ مَن يُحسن إليها، لا سيما إذا كان صاحب المناسبة في حاجة إلى مَن يكاتفه ويسانده ويقدره في مثل هذه الأوقات.
ومِن أجْل هذه المعاني وغيرها: لم تكن عادة النقوط مقصورةً على عوامِّ الناس دون غيرهم، بل عَمِلَها السلاطين والأمراء في مختلف المناسبات التي كانت تحدث لهم.
فمن ذلك: ما حكاه العلامة المَقْرِيزِي [ت: 845هـ] في "السلوك لمعرفة دول الملوك" (7/ 96، ط. دار الكتب العلمية) فقال: [خَتَنَ السلطانُ ولدَهُ الأميرَ ناصر الدِّين محمدًا، وعمل لختانه مهمًّا حَضَره الأُمراء، ثُم خَلَع عليهم، وأركَبَهُم خيولًا بقماش ذهب، وما مِنهم إلَّا مَن نَقَّطَ عند الخِتَان بمبلغ ذهب، فجمع النقوط، وصرف للمُزَيِّن مِنْهُ مائة دينار، وحمل البَقِيَّة إِلى الخزانة] اهـ.
وبنحو ذلك ذكر العلامة المؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدِي [ت: 874هـ] في "المنهل الصافي" (6/ 331، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب)، عند ذكر قصة ولادة الملك الصالح بن محمد بن قَلَاوُن، وما أغدق فيه مِن النقوط.
وعلى ذلك جرى العرف في مصر إلى يوم الناس هذا مِن غير نكير بينهم.
الحكم الشرعي للنقوط الذي يقدم في المناسبات وأقوال الفقهاء في ذلك
أما عن التكييف الفقهي للنقوط، فقد اختلف الفقهاء فيه على أقوال:
القول الأول: أن النقوط يعطى بقصد الثواب، والمقصود بـ"الثواب": أن يُعطي بقصد العِوض بالمثل أو الزيادة عليه، وذلك عند حصول نظير المناسبة التي أهْدَىَ فيها أو مثلها، فهو كهبة الثواب.
قال الإمام شهاب الدين القَرَافِي [ت: 684هـ] في "الذخيرة" (6/ 276، ط. دار الغرب): [والعادة في هدية العرس والولائم: للثواب] اهـ.
وقال الإمام ابن المَوَّاق [ت: 897هـ] في "التاج والإكليل" (8/ 30-31، ط. دار الكتب العلمية): [قال البَاجِي: ما جرت عادة الناس ببلدنا مِن إهداء بعضهم لبعضٍ الكِبَاشَ وغيرَها عند النكاح، فقد قال ابن العَطَّار: إنَّ ذلك على الثواب، وبذلك رأيتُ القضاء ببلدنا؛ لأن ضمائر المُهْدِي والمُهْدَى إليه على ذلك، يُريد: أنه العُرف] اهـ.
القول الثاني: أن النقوط هبةٌ محضةٌ أو هديةٌ، لا يَلزم الآخِذَ ردُّها، إلا إذا بَيَّنَ المعطي أنَّ عطاءه على سبيل القرض، ونَوَى ذلك، وصُدِّق على قوله.
فنُقِل عن "فتاوى العلامة سراج الدين البُلْقِينِي" [ت: 805هـ] أنَّ النقوط لا رجوع به، كما في "حاشية الجَمَل على شرح المنهج" (4/ 277، ط. دار الفكر).
وقال العلامة ابن طُولُون [ت: 953هـ] في "فص الخواتم فيما قيل في الولائم" (1/ 48-49، ط. دار الفكر): [النقوط المعتاد مِن الناس في الأفراح.. هو إلى الهدية أقرب مِن كلِّ شيء] اهـ.
وقال العلامة أبو النَّجَا الحَجَّاوِي [ت: 968هـ] في "الإقناع" (3/ 35، ط. دار المعرفة): [ولا يجوز لواهبٍ ولا يَصِحُّ أن يَرجع في هبته ولو صدقةً وهديةً ونِحْلَةً أو نقوطًا أو حمولةً في عُرسٍ ونحوه] اهـ.
وقال العلامة زين الدين المَلِيبَارِي [ت: 987هـ] في "فتح المعين" (ص: 342، ط. دار ابن حزم): [قال شيخُنا: والأَوْجَه في النقوط المعتاد في الأفراح: أنه هبةٌ لا قرضٌ] اهـ.
وقال العلامة أبو السعادات البُهُوتِي [ت: 1051هـ] في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 437، ط. عالم الكتب): [(ولا) يَصِحُّ (رجوعُ واهبٍ) في هبته (بعد قَبْضٍ) ولو نقوطًا أو حمولةً في نحو عُرس، كما في "الإقناع"] اهـ.
وقال العلامة البُجَيْرِمِي [ت: 1221هـ] في "حاشيته على شرح المنهج" (2/ 350، ط. الحلبي): [والذي تَحَرَّر مِن كلام الرَّمْلِي وحج وحواشيهما: أنه لا رُجوعَ في النقوط المعتاد في الأفراح -أي: لا يرجع به مالكُه إذا وضعه في يد صاحب الفرح أو يد مأذونه- إلا بشروط ثلاثة: أن يأتي بلفظٍ كـ"خُذْهُ" ونحوها، وأن ينوي الرجوع ويُصَدَّق هو ووارثه فيها، وأن يعتاد الرجوع فيه] اهـ. ورَمَز بـ"حج" إلى شيخ الإسلام ابن حَجَر الهَيْتَمِي، ونَقَل ذلك عنه الشيخُ البَكْرِي الدِّمْيَاطِي [ت: 1310هـ] في "إعانة الطالبين" (3/ 63، ط. دار الفكر).
وقال العلامة اللَّبَدِي [ت: 1319هـ] في "حاشيته على نيل المآرب" (2/ 256، ط. دار البشائر): [إذا دفع إنسانٌ لآخَر نقوطًا في عُرس أو ختان، أو أهدى له عند قدومه مِن بلاد الحجاز ونحو ذلك، وكانت العادةُ جاريةً بمكافأةِ مَن فَعَل ذلك، بأن يدفع له نظير ما دفعه، ويهدي له نظير ما أهدى إنْ صار عنده عُرسٌ ونحوه، ثم إنه صار عند ذلك الإنسان عُرسٌ أو نحوه، فأَبَى الآخَر أنْ يدفع له شيئًا، فهل له مطالَبَتُه بما دفعه؟ ظاهر إطلاقهم: لا، كما في "الإقناع" وغيره] اهـ.
القول الثالث: أن النقوطَ قرضٌ يجب سدادُهُ مستقبلًا، أي: أنه يصير دَيْنًا في ذمة الآخِذ، ويجب عليه أن يَرُدَّ مثله أو قيمته إلى المعطي، فَمَتَى طالَبَ المعطي به وَجَبَ رَدُّهُ إليه، ومقتضاه: أنه مِن جُملة الدُّيون المتعلقة بالتركة عند حصول الوفاة.
قال العلامة كمال الدين الدَّمِيرِي [ت: 808هـ] في "النجم الوهاج في شرح المنهاج" (7/ 393، ط. دار المنهاج): [النقوط المعتاد في الأفراح، قال الشيخ نجم الدين البالسي: إنه كالدَّيْن، لِدَافِعِهِ أن يطالِب به القابضَ، قال: ولا أثر للعُرف في ذلك؛ فإنه مضطرب، فكم يدفع النقوط ثم يستحي أن يطالب به] اهـ.
وقال الشيخ سليمان الجَمَل [ت: 1204هـ] في "حاشيته على شرح المنهج" (3/ 255): [ومِن القرض الحكمي: أَمْرُ غيرِه بإعطاءِ ما لَهُ غَرَضٌ فيه، كإعطاءِ شاعرٍ أو ظالمٍ أو إطعامِ فقيرٍ، ومِن ذلك: النقوط المعتاد في الأفراح، حيث اعْتِيدَ الرجوعُ به مِن قِبَلِ الدافع والمدفوع له والمدفوع في تلك البلدة] اهـ.
وقال أيضًا (4/ 277): [في "العباب" في آخر باب القرض ما نَصُّه: خاتمة النقوط المعتاد في الأفراح، أفتى البَانِي والأَزْرَق اليَمَنِي: أنه كالقرض، يَطلبه مَتَى شاء] اهـ.
وقال الشيخ عِلِيش [ت: 1299هـ] في "فتح العلي المالك" (2/ 268، ط. دار المعرفة): [(ما قولكم) فيمَن دفع لآخَر نقوطًا في فرح، ثم طالبه به، فهل يجاب لذلك مُعَجَّلًا، ولا يلزمه التأخير حتى يحدث له فرح؟ أفيدوا الجواب، فأجبتُ: بأنه يجاب لذلك مُعَجَّلًا] اهـ.
فيتحصَّل مما سبق: أنَّ الخلاف بين الفقهاء في التكييف الفقهي للنقوط، هل هو هبة ثواب، أو قرض، أو هدية محضة؟ مبنيٌّ على اختلاف العرف والعادة كما هو واضح مِن سياق النصوص، ومِن المعلوم أن الأعراف والعادات تتغير بتغيُّر الأماكن والبلدان والأشخاص والأزمان، ومِن ثَمَّ فقد قرَّر الحُكْمَ كلُّ فقيهٍ بما استقرَّ عليه العُرف في زمانه ومكانه، ووفقًا لِمَا اعتاده الناسُ في هذا الشأن وتَلَقَّوْهُ بالقبول، وكان سببًا لدوام هذه السُّنَّة الحَسَنَة فيما بينهم مِن غير نزاعٍ، ولا تبادُل لَوْمٍ ولا عِتَاب؛ فإن "العَادَةَ مُحَكَّمَةٌ، أَيْ: مَعْمُولٌ بِهَا شَرْعًا"؛ كما قال العلامة علاء الدين المَرْدَاوِي في "التحبير شرح التحرير" (8/ 3851، ط. مكتبة الرشد)، فإذا اضطرب العرفُ أفتى بما يقطع النزاع بِنَاءً على كثرة ما يُعرَض عليه منه وتَتَبُّعِهِ لأسبابه وأحوال الناس فيه، وهو ما قرَّره جماعةٌ مِن محققي المذاهب الفقهية المَتبوعة.
قال العلامة شهاب الدين ابن القاسم العَبَّادِي [ت: 992هـ] في "حاشيته على تحفة المحتاج" (6/ 317، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [(فرع) وما تقرر مِن الرجوع في النقوط لا فرق فيه بين ما يستهلك كالأطعمة وغيره، ومدار الرجوع على عادة أمثال الدافع لهذا المدفوع إليه، فحيث جرت بالرجوع رجع، وإلا فلا] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين الرَّمْلِي [ت: 1004هـ] في "نهاية المحتاج" (4/ 228، ط. دار الفكر): [وما جَرَت به العادةُ في زماننا مِن دفع النقوط في الأفراح، هل يكون هبة أو قرضًا؟ أطلق الثاني جَمْعٌ، وجرى على الأوَّل بعضُهم.. وجَمَع بعضُهم بينهما، بِحَمْل الأول على ما إذا لم يعتد الرجوع به، ويختلف باختلاف الأشخاص والمقدار والبلاد، والثاني على ما اعتيد، وحيث علم اختلافه تعيَّن ما ذكر] اهـ.
وقال العلامة خير الدين الرَّمْلِي [ت: 1081هـ] في "الفتاوى الخيرية لنفع البرية" (2/ 111، ط. الأميرية): [وسئل فيما يرسله الشخصُ إلى غيره في الأعراس ونحوها، هل يكون حُكمُه حُكمَ القرض فيلزمه الوفاء به، أم لا؟ أجاب: إن كان العرفُ بأنهم يدفعونه على وَجه البَدَل يلزم الوفاءُ به مثليًّا فبِمِثلِه، وإن قيميًّا فبقيمته، وإن كان العرفُ خلافَ ذلك، بأن كانوا يدفعونه على وَجه الهبة، ولا ينظرون في ذلك إلى إعطاء البدل، فحُكمُه حُكمُ الهبة في سائر أحكامه، فلا رجوع فيه بعد الهلاك أو الاستهلاك، والأصل فيه: أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.
وسئل فيما اعتاده الناس في الأعراس والأفراح والرجوع من الحج مِن إعطاء الثياب والدراهم، وينتظرون بَدَله عندما يقع لهم مثل ذلك، ما حكمه؟ أجاب: إن كان العرفُ شائعًا فيما بينهم أنهم يُعطُون ذلك ليأخذوا بدله، كان حُكمُه حُكمَ القرض، فاسدُه كفاسده، وصحيحُه كصحيحه؛ إذ المعروفُ عُرفًا كالمشروط شرطًا، فيطالب به] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين [ت: 1252هـ] في "رد المحتار" (5/ 696، ط. دار الفكر): [وفي "الفتاوى الخيرية": سئل فيما يرسله الشخصُ إلى غيره في الأعراس.. قُلتُ: والعرفُ في بلادنا مُشتَرَكٌ، نَعَمْ في بعض القُرى يَعُدُّونه قرضًا، حتى إنهم في كلِّ وليمةٍ يُحضرون الخطيبَ يَكتب لهم ما يُهْدَى، فإذا جعل المهدِي وليمةً يراجِع المهدَى الدفترَ فيُهدي الأولُ إلى الثاني مثلَ ما أهدى إليه] اهـ.
وقال العلامة اللَّبَدِي في "حاشيته على نيل المآرب" (2/ 256): [إذا دفع إنسانٌ لآخَر نقوطًا في عُرس أو ختان.. لو قيل: له الرجوع مع العادة، لكان له وَجهٌ؛ لأنه لو لم يعلم الدافع أنه يدفع له نظير ما دفعه له لَم يدفعه، وهذا معروفٌ عندهم، والمعروف كالمشروط] اهـ.
بيان أن إعمال العرف في العلاقات الاجتماعية خير من إهماله
مِن المقرر شرعًا أن إعمال العرف في مِثل هذه المسائل التي تمس العلاقات الاجتماعية أَوْلَى مِن إهماله؛ لكونه الأنسبَ لحال البلاد والعباد، فيُنْظَرُ في ذلك باعتبار المكان والأشخاص والمقدار المقدَّم، ويحكم عليه بالمقاصد مع القرائن والأحوال، فإن جرى العرف على أنه يقدَّم كهبةٍ مجردةٍ أو هديةٍ، فلا يلزمه الرجوع به إلا من باب رد الإحسان بالإحسان، وليس على المعطي المطالبة بشيء منه؛ لأن الهدية لا يُسأل عنها ولا عن ردها، وإن كان العرف على أنه دَيْنٌ يلزم الآخِذَ رَدُّهُ للمعطي إذا حصل له نظيرُه، فعليه رَدُّهُ، وللمعطي المطالبة به عادةً، وإن كان العرف على أنه هدية للثواب، كان على الآخِذِ أن يجازي مَن أهدى إليه بِرَدِّ المثل أو الزيادة عليها أو النظير عند حصول أقرب مناسبةٍ للمعطي.
هذا؛ لأن الأعراف معتبرة في العقود، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، وأن العُرف هو أَحَدُ مَصادِرِ التشريع الإسلامي ما لم يَتعارض مع نَصٍّ مِن كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعٍ، إذ لا اجتهاد مع النَّصِّ؛ قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف: 199].
وجاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ" أخرجه الإمامان أحمد والطيالسي في "مسنديهما".
قال الإمام البَيْضَاوِي في "أنوار التنزيل" (3/ 46، ط. دار إحياء التراث): [﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ المعروف المستحسَن مِن الأفعال] اهـ.
وقال الإمام ابن عَجِيبَة في "البحر المديد" (2/ 297، ط. دار الكتب العلمية): [﴿وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ﴾ أي: المعروف، وهو أفعال الخير، أو العرف الجاري بين الناس، واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعرف الذي يجري بين الناس] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين في "أُرجوزة عقودِ رَسْمِ المفتي" -كما في "رد المحتار" (3/ 147)-: [وَالْعُرْفُ فِي الشَّرْعِ لَهُ اعْتِبَارُ *** لِذَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ قَدْ يُدَارُ] اهـ.
نصيحة دار الإفتاء المصرية في هذا الشأن
الذي تنصح به دارُ الإفتاء المصرية الناسَ أن يتكاتفوا ويتعاونوا في المَسَرَّات وعند نزول المُلِمَّاتِ ولو بالكلمة الطيبة، كما يستحب أن يكون العطاء بِسَخَاءِ نَفْس، فيقصد عند العطاء عمل الخير والمعروف ومساعدة الناس وإعانتهم في السراء والضراء ابتغاء مرضات الله، فتعمُّ المحبة بذلك وتدوم الألفة؛ تصديقًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» أخرجه الأئمة: البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى في "المسند"، والبيهقي في "السنن".
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَغَرَ الصَّدْرِ» أخرجه الأئمة: أحمد في "المسند"، والترمذي في "السنن"، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان".
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا» أخرجه الأئمة: الشهاب في "المسند"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وأبو نعيم في "الحلية".
قال العلامة أبو العلا المُبَارَكْفُورِي في "تحفة الأَحْوَذِي" (6/ 276، ط. دار الكتب العلمية): [وفي الحديث: الْحَضُّ على التهادي ولو باليسير؛ لما فيه مِن استجلاب المودة وإذهاب الشحناء، ولما فيه مِن التعاون على أَمْرِ المعيشة] اهـ.
كما يُراعَى أنَّ مَن أُهدِيَ إليه شيءٌ، فقدر على رد مثله أو نظيره، فينبغي له أن يسارِع في ذلك؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86].
قال الإمام السَّمَرْقَنْدِي في "بحر العلوم" (1/ 373، ط. دار الكتب العلمية): [يعني: إذا أُهدِيَ إليكم بهدية، فكافئوا بأفضلَ منها أو مثلها، وهذا التأويل ذُكِر عن أبي حنيفة] اهـ.
وقال الإمام ابن العَرَبِي في "أحكام القرآن" (1/ 591، ط. دار الكتب العلمية): [وظاهر الآية يقتضي رد التحية بعَيْنها، وهي الهدية، فإما بالتعويض أو الرد بعَيْنه] اهـ. أي: لمَّا أباح الشرع قبول الهدية، رَغَّب في رَدِّها والمكافأة عليها استحبابًا، مِن باب الفضل والامتنان، ورَدِّ الإحسان بالإحسان، لا على سبيل الوجوب والإلزام.
وعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
قال العلامة الشَّوْكَانِي في "نيل الأوطار" (6/ 9، ط. دار الحديث): [«وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» أي: يعطي المهدِي بَدَلَها، والمراد بالثواب: المجازاة، وأقلُّه: ما يساوي قِيمةَ الهدية] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فإنَّ النقوط عادةٌ مستحبةٌ، مبناها على تحقيق مبدأ التكافل بين الناس عند نزول المُلِمَّاتِ أو حدوث المَسَرَّات، بأن يبذل إنسانٌ لآخَر مالًا -نقدًا أو عَيْنًا- عند الزواج أو الولادة أو غيرهما مِن المناسبات، وذلك على سبيل المسانَدَة وتخفيف العبء أو المجامَلة، ويُرجَع عند النزاع بين أطرافه في كونه دَيْنًا واجب الأداء مَتَى طُولِب به، أو هبةَ ثوابٍ يُرَدُّ مِثلُها في مناسبةٍ نحوِها للواهب، أو هبةً محضةً يُستحب مقابلتُها بمِثلها أو أحْسَنَ منها مِن غير وجوب ولا إلزام، يُرجَع في ذلك كلِّه إلى أعراف الناس وعاداتهم التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ويَحكُمُ بها أهلُ الخبرة بذلك فيهِم.