لماذا تعتمد أمريكا وأوروبا على الوقود النووي الروسي حتى الآن؟
تحركت الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا بسرعة لخنق صادرات النفط والغاز الطبيعي والفحم الروسية بعد أن أمر فلاديمير بوتين لقواته العسكرية بغزو أوكرانيا. لكن عندما يتعلق الأمر بالطاقة النووية، فلا تزال شركة "روساتوم" (Rosatom) التي يسيطر عليها الكرملين المصدر المهيمن لوقود محطات الطاقة النووية في العالم، حيث توفر حوالي نصف الطلب العالمي على اليورانيوم المخصب. تتسابق الدول الغربية لإعادة بناء قدراتها الإنتاجية التي تلاشى معظمها وسط تجنب متزايد للطاقة النووية في أعقاب كارثة فوكوشيما في اليابان. لكن يُرجح أن يكون التقدم بطيئاً.
كيف يصنع الوقود النووي؟
تُغذى المحطات النووية باليورانيوم، وهو عنصر شائع نسبياً ومشع بشكل طبيعي. ومع ذلك، يحتاج خام اليورانيوم إلى المرور بعملية صناعية واسعة قبل استخدامه في المفاعل. حيث يحتاج العنصر إلى التعدين وطحنه وتحويله إلى شكل غازي. ثم تقوم مرافق التخصيب بفصل النظائر التي تمثل حوالي 0.7%من المعدن الثقيل، وتحويلها إلى شكل مسحوق يمكن هندسته بدقة إلى قضبان تُجمع في مجموعات الوقود للمفاعلات. ولأنه يمكن استخدام نفس المواد والعمليات المستخدمة في صنع وقود المفاعلات في صناعة الأسلحة، فإن التفاصيل الدقيقة لدورة انتاج الوقود النووي كانت واحدة من التفاصيل الأكثر سريةً منذ أن تم هندستها لأول مرة من قبل العلماء في إطار مشروع مانهاتن خلال الحرب العالمية الثانية.
هيمنة روسيا على الوقود النووي
عكس الشركات الغربية المختصة في مجال الطاقة النووية، تشارك "روساتوم" في كل جزء من سلاسل توريد الوقود، بدءاً من استخراج الخام وصولاً إلى تخصيب الوقود وتسليمه. تعتبر الشركة بمثابة تعبير عن القوة الجيوسياسية للكرملين بقدر ما هي شركة مربحة، وقد صب هذا الالتزام على مستوى الدولة في مصلحة روسيا. عندما ابتعد المستثمرون الدوليون عن الطاقة النووية عقب حادث فوكوشيما في عام 2011، أفلست بعض الشركات الغربية المشاركة في دورة تصنيع الوقود، بما في ذلك "أريفا أس إي" (Areva SA) في فرنسا، وشركة التخصيب الأميركية وشركة” ويستنغهاوس إليكتريك“ (Westinghouse Electric) .
تدخلت روسيا، وبنت حصة في السوق ليس فقط بين أسطول المفاعلات النووية الحالي عالمياً، ولكن من خلال تقديم تمويل سخي لبناء مشاريع أجنبية جديدة.
السعي لتجنب اليورانيوم الروسي يبدأ من صحراء نيو مكسيكو
يوفر عمال "روساتوم" البالغ عددهم 330 ألف عامل الوقود لعشرات المفاعلات القديمة في أوروبا الشرقية وروسيا، كما تقوم الشركة ببناء 33 وحدة طاقة جديدة في 10 دول، بما في ذلك الصين والهند، التي ستكون مقيدة بعقود الوقود للسنوات المقبلة.
ما هي الدول الأكثر اعتماداً على الوقود النووي الروسي
تواصل الأقمار الصناعية السوفيتية السابقة في أوروبا الشرقية تشغيل العشرات مما يسمى بمفاعلات الماء المضغوط (VVER) التي تم بناؤها خلال حقبة الحرب الباردة. تستخدم معظم هذه الوحدات القديمة وقود "روساتوم" وتعمل بالفعل في الوقت الضائع، وتولد الكهرباء بعد الفترة الأولية من ترخيص المنظمين تشغيلها. ما يعني أن هناك حافزاً ضئيلاً للشركات الجديدة لدخول السوق ومنافسة الامدادات الروسية. هناك بعض الاستثناءات، حيث وقعت "وستنغهاوس" (Westinghouse)، بعد خروجها من الإفلاس في عام 2018، عقوداً لتزويد بعض مفاعلات الماء المضغوط الأوكرانية بالوقود ولكن حتى هناك، تواصل أوكرانيا الاعتماد على مخزون "روساتوم" ولن تكون قادرة على تنويع المصادر بعيداً عن روسيا حتى وقت لاحق من هذا العقد.
قوى نووية تتعهد بإزاحة روسيا من أسواق اليورانيوم
إنه تحدّ مماثل تضعه بلغاريا أمام التشيك وفنلندا، حيث يُتوقع أن يستغرق البحث عن موردين بديلين سنوات طويلة. إجمالاً، تغطي روسيا نحو 30% من طلب الاتحاد الأوروبي على اليورانيوم المخصب.
مدى تعرض الولايات المتحدة للخطر
نمت التجارة الذرية بين البلدين في أعقاب الحرب الباردة في إطار ما يسمى ببرنامج "ميغاطن إلى ميغاواط"، الذي حول 500 طن من اليورانيوم الروسي المستخدم في صناعة الأسلحة إلى وقود مناسب للمفاعلات الأميركية. لا تزال روسيا مزوداً رئيسياً لخدمات تعدين اليورانيوم وطحنه وتحويله وتخصيبه للمرافق الأميركية، ما يعرض المستهلكين الأميركيين لاضطراب محتمل.
مشترو اليورانيوم ينتقلون من روسيا إلى أكبر شركة كازاخستانية
في عام 2022، زودت روسيا حوالي ربع كميات اليورانيوم المخصب الذي اشترته مفاعلات الطاقة النووية الأميركية، وفقاً للأرقام الصادرة عن الحكومة الأميركية. يُعتبر توفير اليورانيوم المخصب إلى مستويات أعلى الأكثر عرضةً للخطر، والذي يستخدمه جيل جديد مما يسمى بالمفاعلات النمطية الصغيرة (SMRs) لأنه يقلل من تكرار عملية إعادة التزود بالوقود. تقوم "روساتوم" حالياً بتوريد كل ما يسمى بـ "يورانيوم منخفض التخصيب عالي المقايسة" (HALEU)، إلى الولايات المتحدة.
يدفع الضعف الاقتصادي الملحوظ على جانبي المحيط الأطلسي إلى تعاون غير مسبوق في إعادة تشغيل دورة انتاج الوقود النووي. حيث تعهدت الولايات المتحدة وكندا في مارس بإعادة بناء قدرات أميركا الشمالية بشكل مشترك. ولحقت بذلك كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا واليابان وفرنسا بعقد اتفاقات منفصلة لتطوير سلاسل التوريد المشتركة التي تعزل روسيا. يدرس الكونغرس الأميركي فرض قيود محلية على واردات اليورانيوم الروسية وحوافز الاستثمار لجذب موردين جدد.
يضمن قانون المناخ والطاقة النظيفة التاريخي الذي أقره الرئيس الأميركي جو بايدن، العام الماضي، 700 مليون دولار لتطوير إمدادات الوقود المحلية للمفاعلات المتقدمة. حيث تعمل وزارة الطاقة وشركة ”سينتروس إنرجي“ (Centrus Energy)، على مشروع تجريبي لـ"يورانيوم منخفض التخصيب عالي المقايسة" (HALEU).
كما تستثمر شركات صناعة الوقود الأوروبية التي شملت كل من ”يورينكو“ (Urenco) و ”أورانو“ (Orano) في قدرات جديدة، بما في ذلك في الولايات المتحدة، لتخفيف اعتماد العملاء على الموردين الروس. ويرى المسؤولون التنفيذيون في الصناعة أن الأمر سيستغرق حوالي خمس سنوات لإكمال المحور بعيداً عن موسكو.
في العام الذي أعقب غزو روسيا لأوكرانيا، زادت "روساتوم" صادراتها بأكثر من الخمس بينما وقعت صفقات جديدة في الأسواق الناشئة. كما قالت "روساتوم" للعملاء في يونيو إن الجهود المبذولة لإيجاد بدائل بعيداً عن الإمدادات الروسية تبدو وكأنها "وحش فرانكشتاين" (في إشارة إلى شخصية خيالية مرعبة) مؤكدةً أنه رغم من امتلاك كل دولة غربية أجزاء فردية من سلاسل توريد الوقود النووي، لا يمكن لأي دولة منافسة علامتها التجارية المتكاملة. ومع ذلك، قالت "روساتوم" إنها تدرك المخاطر و ستسعى لحماية مصالحها جزئياً من خلال تقديم أفضل الحلول التي تم اختبارها بالفعل للدول.