ذكرى مرور نصف قرن على اغتيال الموساد للكاتب والصحفي غسان كنفاني
رغم رحلة غسان كنفاني القصيرة في الحياة التي استغرقت 36 عامًا فقط، إلا أن حياة الأديب والصحفي الفلسطيني الشهير كانت حافلة بالإنجازات الأدبية والصحفية والمواقف السياسية والإنسانية التي لا يزال أثرها باقٍ إلى الآن، إذ أصدر كنفاني حتى تاريخ وفاته المبكّر ثمانية عشر كتابًا، وكتب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني. فضلًا عن أعماله الفنيّة في الرسم والمُلصق السياسي الثوري والمقالة اليوميّة.
في صباح يوم السبت 8 يوليو 1972، في منطقة الحازميّة قرب العاصمة اللبنانيّة بيروت، انفجرت سيارة فور تشغيلها نتيجة زرع عبوة ناسفة تزن قرابة 9 كيلوغرامات تحت مقعد السيارة. أُعلن بعدها خبر استشهاد الكاتب والصحفي الفلسطيني غسان كنفاني عن عمر 36 عامًا واستشهاد ابنة اخته لميس حسين نجم (17 عامًا).
أشارت أصابع الاتهام إلى المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، لكنها لن تعلن مسؤوليتها عن الحادث إلا بعد 33 عامًا. واستقبل العالم العربي خبر استشهاد كنفاني بغضبٍ شديد، ومنحت الصحف العربية خبر اغتياله بمنحه صدر صفحاتها الأولى، وقابله المناصرون للقضية الفلسطينية بالدعوة للثأر والانتقام، وتعاملت معه فصائل المقاومة بالوعيد، كان انتصارًا بعيون رئيسة الوزراء الإسرائيلية حينها، جولدا مائير، التي قالت تعقيبًا على الاغتيال، «بمقتل غسان تخلصنا من لواء فكري مسلح، فغسان كان يشكّل خطرًا على إسرائيل أكثر من ألف فدائي مسلح».
حياة غسان.. ترحال ونضج مبكر
وُلِدَ الأديب غسّان كنفاني في مدينة عكا في التاسع من أبريل 1936 وهُجِّرت عائلته إلى لبنان في العام 1948 ثم إلى مخيمات سوريا وهو في الثانية عشرة من عمره، واستقر بهم المقام في منزل قديم من منازل دمشق.
بدأت في دمشق مرحلة أخرى قاسية من مراحل حياة الأسرة، إذ كان غسان في طفولته يلفت النظر بهدوئه بين جميع إخوته وأقرانه ولكن الأهل كانوا يكتشفون أنه يشترك في مشاكلهم ومهيأ لها دون أن يبدو عليه ذلك.
بعدها تحسنت أحوال الأسرة وافتتح أبوه مكتبًا لممارسة المحاماة، فأخذ هو إلى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف وأحيانًا التحرير. واشترك في برنامج فلسطين في الإذاعة السورية وبرنامج الطلبة، وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية.
وأثناء دراسته الثانوية برز تفوقه في مادتي الأدب العربي والرسم، وعندما أنهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين وتحديدًا في مدرسة الاليانس بدمشق والتحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي وأسند إليه آنذاك تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي، وكان معظم ما عرض فيه من جهد غسان الشخصي. وذلك بالإضافة إلى معارض الرسم الأخرى التي أشرف عليها.
وفي ذلك الوقت، انخرط غسان كنفاني في حركة القوميين العرب، وكان يضطر أحيانًا للبقاء ساعات متأخرة من الليل خارج منزله، ما كان يسبب له إحراجًا مع والده الذي كان يحرص على إنهائه لدروسه الجامعية، فحرص على بذل جهده للتوفيق بين عمله وبين إخلاصه لرغبة والده.
أكمل غسان دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا السورية عام 1952. في ذات العام سجّل في كلية الأدب العربي في جامعة دمشق ولكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية، انضم إلى حركة القوميين العرب التي ضمه إليها جورج حبش لدى لقائهما عام 1953.
وفي أواخر عام 1955، التحق للتدريس في المعارف الكويتية. وفترة إقامته في الكويت كانت المرحلة التي رافقت إقباله الشديد والذي يبدو غير معقول على القراءة، وهي التي شحنت حياته الفكرية بدفقة كبيرة فكان يقرأ بنهم لا يصدق. كان يقول إنه لا يذكر يومًا نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن ستمائة صفحة.
أما بيروت كانت المكان الأكثر رحابة لعمل غسان وفرصته للقاء بالتيارات الأدبية والفكرية والسياسية. بدأ عمله في مجلة الحرية، وكتب أيضًا مقالًا أسبوعيًا لجريدة «المحرر» البيروتية.
لفت نشاطه ومقالاته الأنظار إليه كصحفي ومفكر وعامل جاد ونشيط للقضية الفلسطينية فكان مرجعًا لكثير من المهتمين بالقضية. وظل غسان في بيروت ليتفرغ للعمل الصحفي والنشاط السياسي والثقافي في إطار «حركة القومين العرب».
إنتاجه الأدبي المتفاعل مع الحياة
كان غسان كنفاني -في كل ما كتب- يصور واقعًا عاشه أو تأثر به، لذلك يُعد أدب كنفاني وإنتاجه الأدبي متفاعلًا دائمًا مع حياته وحياة الناس. فقد وصف في رواية «عائد إلى حيفا» رحلة مواطني حيفا في انتقالهم إلى عكا، ووعيّ ذلك وهو ما يزال طفلًا يجلس ويستمع ويراقب، فتركزت هذه الأحداث في مخيلته فيما بعد من تواتر الرواية.
وفي قصته «ما تبقى لكم» التي تعتبر مكملة لرواية «رجال في الشمس»، يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين وكان ذلك تبشيرًا بالعمل الفدائي. وقصص «أم سعد» وقصصه الأخرى كانت كلها مستوحاة من أشخاص حقيقيين. في فترة من الفترات كان يعد قصة ودراسة عن ثورة فلسطين 1936 فأخذ يجتمع إلى سكان المخيمات الفلسطينية ويستمع إلى ذكرياتهم عن تلك الحقبة والتي سبقتها والتي تلتها، وقد أعد هذه الدراسة لكنها لم تنشر (نشرت في مجلة شؤون فلسطينية) أما القصة فلم يكتب لها أن تكتمل.
رحلة غسان كنفاني الأدبية والسياسية
شارك غسان كنفاني في النّضال السياسيّ والجماهيري من خلال نشاطه في «حركة القومين العرب» وتأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، حيث تولى مسؤولية إدارة تحرير مجلة «الهدف» الناطقة باسم الجبهة في عام 1969 وترأس هيّئة تحريرها حتى استشهاده. وبعد 1969 ازداد نشاطه السياسي، فأصبح عضوًا في المكتب السياسي للجبهة الشعبية، التي كانت فصيلًا فلسطينيًا يساريًا، وبات الناطق الرسمي باسمها.
وكذلك ساهم غسان في وضع الاستراتيجية السياسية والبيان التأسيسي للجبهة، مؤكدًا أهمية العمل الفدائي والكفاح المسلح، وكان دوره السياسي أساسيًا في الجبهة الشعبية رغم أنه لم يكن منضبطًا في العمل الحزبي ولم يشارك في الاجتماعات بشكلٍ منتظم.
وقد تولى غسان كنفاني إدارة وتحرير صُحف عربيّة يوميّة في سنٍ مُبكرة، وظل حاضرًا وفاعلًا في المشهد الثقافي العربي، ويَعتبره القُراء والنُقاد العرب واحدًا من أهم الأصوات والرموز الثورية والثقافيّة التي استطاعت التعبير عن واقع القضيّة الفلسطينيّة ومُعاناة الشعب الفلسطيني إلى العالم عبر لغته النقدية الواضحة وأسلوبه البسيط والعميق. لذلك يُعد كنفاني كاتبًا وصحفيًا ومناضلًا من طراز ثوري رفيع.
وقال عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش: «لعل المسعى الأهم لبحوث كنفاني الأدبية هو ذلك المتمثل في ترسيخ أسس ولادة الفلسطيني الجديد، لجهة التأني عن الإنسان المجرد والفلسطيني المجرد والاقتراب من الإنسان الفلسطيني الذي يعي أسباب نكبته ويدرك أحوال العالم العربي...».
وعقب اغتياله، أعيد نشر جميع مؤلفاته بالعربية، في طبعات عديدة. وجمعت رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ومقالاته ونشرت في أربعة مجلدات. كما تُرجمت معظم أعمال غسان كنفاني الأدبية إلى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلدًا، وتحولت بعضها إلى أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في عدة بلدان عربية وأجنبية عدة.
اعتراف الموساد بالاغتيال
وفي عام 2005م، اعترفت إسرائيل لأول مرة وبشكلٍ رسمي أن عملاء جهاز الموساد هم الذين اغتالوا الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني في عام 1973 بزرع عبوة ناسفة في سيارته.
وجاء هذا الاعتراف الإسرائيلي بقتل الكاتب الفلسطيني في سياق تقرير بقلم الصحفي الإسرائيلي إيتان هابِر نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت يوم الإثنين 3 أكتوبر 2005، حول كشف جديد لمعلومات تتعلق بـ«حملة الثأر» التي نفذها عملاء الموساد في عدد من الدول ضد فلسطينيين في أعقاب مقتل الرياضيين الإسرائيليين خلال دورة الألعاب الأولمبية في العام 1972 في مدينة ميونيخ الألمانية.
وكتب هابِر أن «الألمان، بتشجيع من حكومة إسرائيل، لم ينووا تحرير الخاطفين...، فقد انتظرهم شرطيون ألمان في المطار وفتحوا عليهم النيران ما أدى إلى مقتل الرياضيين وخاطفين». وأضاف أنه «بعد سنتين من العملية (أي في العام 1974) سيتضح أن جميع القتلى ماتوا بنيران القناصة الألمان رغم أن الاعتقاد السائد كان أن الرياضيين قتلوا على أيدي الخاطفين».
ولكن على الرغم من ذلك، أصدرت رئيسة الوزراء الإسرائيلية في حينه جولدا مائير أمرًا بالانتقام، فتشكلت لجنة وزارية لتصدر «أحكامًا بالإعدام». وعندما تقرر تنفيذ «احكام الإعدام» بحق فلسطينيين في عواصم أوروبية تبين أن قاعدة الموساد في أوروبا لم تكن بالحجم الكافي وأذرعه ضعيفة وغير قادرة على اختراق الجاليات العربية في أوروبا، لذلك تم تجنيد رجال المعروفين بقدراتهم على جمع المعلومات، ليتولوا مهمة تصفية ما تبقى من الخاطفين.
واعترف هابِر أنه كان هناك قتلى في «حملة تنفيذ أحكام الإعدام الإسرائيلية» على الرغم من عدم وجود علاقة لهم بالإرهاب عامة وبعملية ميونيخ بشكلٍ خاص. وأضاف «يعترفون اليوم في الموساد بأن هناك من سقط ضحية في أعقاب القرار بخلق أجواء من الرعب والردع في صفوف الجالية الفلسطينية في أوروبا. وأبرز هؤلاء الضحايا كان غسان كنفاني أحد ابرز الادباء الفلسطينيين في الفترة التي أعقبت عام 1948...، وقد قضى نحبه في عام 1973 في سيارته بعدما زرع مجهولون عبوة ناسفة فيها».
واليوم رغم مرور 51 عامًا على استشهاد غسان كنفاني إلا إنه ما زال حاضرًا في المشهد الثقافي والأدبي والشعبي لدى الشعوب العربية، وأصبح اسمه عابرًا للجنسيات والبُلدان واللغات، ولا تزال أفكاره التي عبر عنها في أدبه ومقالاته حيةً في قلوب قرائه، فالأجساد ترحل والأفكار لا تموت.