أوروبا تصحو على تهديد نسخة شرقية من «بريكست»
توجِّه لوحات إعلانية في محطات ترام بودابست عليها شريحة بيتزا وفوقها شعار "لماذا نرضى بالقليل؟".. دعوات لمواطني المجر للتفكير بمحافظ نقودهم واختيار "أوروبا بشكلٍ أكبر".
قد تبدو الرسالة غير ضرورية في دولة شيوعية سابقة حصلت على أكثر من 100 مليار يورو (110 مليارات دولار) منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في 2004، وهو من بين أعلى مستويات الدعم نسبةً لنصيب الفرد، لكن الحملة تعكس بعض التطورات المثيرة للقلق في دولة أضحت أهم اختبار لوحدة الاتحاد الأوروبي وسلامته.
بعد هيمنة رئيس الوزراء فيكتور أوربان على الحياة العامة لسنوات بسبب مهاجمته للاتحاد الأوروبي؛ يصل الهجوم المضاد إلى المواطنين العاديين في وقتٍ تُظهر فيه استطلاعات الرأي أنَّ المجريين يتجهون نحو الشرق بشكل متزايد، ويكمن الخطر في أنَّ تراجع الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي قد يخفف من أهم حاجز للحماية من نموذج القيادة غير الليبرالي الذي يتبعه أوربان.
سجل استطلاع "يوروباروميتر" الأحدث، الذي يجريه الاتحاد الأوروبي كل 6 أشهر، انخفاضاً مجرياً قدره 12 نقطة مئوية في دعم التكتل، وهو أكبر انخفاض بين أعضائه البالغ عددهم 27.
كما وجد مسح عن علاقات المجر مع البلدان الأخرى أُجري لصالح صحيفة "نيبسزافا"، التابعة لتيار يسار الوسط -أكبر تجمع سياسي إلى حد بعيد- أنَّ غالبية مؤيدي أوربان يعتبرون أنفسهم "أكثر تعاطفاً" مع الروس والصينيين و"أقل تعاطفاً" مع الأميركيين والأوكرانيين. على النقيض من ذلك؛ كان الروس هم الأقل شعبية بين عموم سكان البلاد، وفقاً للنتائج المنشورة في 17 أبريل.
دانيال هيجيدوس، الزميل في صندوق مارشال الألماني في برلين، يرى أنَّ "هذا مهم للغاية ومخيف، بالنظر إلى السرعة التي تتغير فيها المواقف. فاعلية أوربان في تدمير موقف المجر المؤيد لأوروبا تثير الدهشة".
حرم خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي "بريكست" في يناير 2020 التكتل من ثاني أكبر اقتصاداته بعد استفتاء مثير للانقسام تمكّنت الحكومة من الفوز به، ومع ذلك؛ فإنَّ وقوع حدث سياسي مماثل في المجر -وإن كان أقل تكلفة- يمكن القول إنَّه أكثر رمزية كونها شكّلت ذات يوم مثالاً لتوسع الاتحاد الأوروبي الناجح بعد الحرب الباردة.
يدور خلاف بين المجر، تحت قيادة أوربان، وبولندا من جهة، وبين بروكسل من الجهة الأخرى على سيطرة الحكومة على المؤسسات الديمقراطية مثل القضاء والإعلام، ويركز مسؤولو الاتحاد الأوروبي أيضاً على الفساد في المجر، التي تحتل الآن المرتبة الأخيرة بين الدول الأعضاء في تصنيف منظمة الشفافية الدولية.
ما يزال الاتحاد الأوروبي يحجب تمويلاً يتجاوز 28 مليار يورو عن المجر بسبب مخاوفه تلك، بالرغم من أنَّ مفوض الميزانية يوهانس هان قال في مقابلة يوم الخميس إنَّه يمكن الإفراج عن نحو 13 مليار يورو في الأسابيع المقبلة بعد صفقة تهدف إلى استقلال القضاء وعدم تسييس المحاكم.
رفض أوربان مراراً فكرة اعتزامه إخراج المجر من الاتحاد الأوروبي، مُعتبراً أنَّ المغادرة لن يكون لها أي معنى، بالنظر إلى مدى تشابك بلاده مع التكتل التجاري، كما أنَّ ما يناهز 80% من صادراتها تجد طريقها إلى الأسواق الأوروبية المفتوحة الحدود، ويعتمد اقتصادها على استثمارات من شركات ألمانية مثل "مرسيدس" و "بي إم دبليو".
مع ذلك؛ فإنَّ التساؤلات حيال التزام رئيس الوزراء المجري تجاه أوروبا- وعلى نطاق أوسع ولاؤه الغربي- بثّت الشكوك إزاء هدف لعبة أوربان، لاسيما بالنظر إلى أفعاله وخطابه منذ غزو روسيا لأوكرانيا.
طرحت الحكومة فكرة "هوكست" أثناء جائحة كورونا عندما قال وزير المالية ميهالي فارجا إنَّ عضوية الاتحاد الأوروبي قد "تُصاغ من منظور جديد" بمجرد أن تصبح المجر مساهماً صافياً في ميزانية التكتل، وهو ما قال إنَّه قد يحدث بحلول 2030، وأطلق هيغيدوس على ذلك صفة "بالون اختبار" لقياس الرأي العام بشأن العضوية.
منذ ذلك الحين، يهاجم أوربان الاتحاد الأوروبي بسبب محاولة محاصرته مالياً مع انهيار الاقتصاد والعملة. وتنشر العشرات من محطات البث والصحف والمواقع الإلكترونية التي تسيطر عليها آلة أوربان السياسية الرواية القائلة بأنَّ دعم الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا يضر بالمجر.
تظهر على اللوحات الإعلانية التي ترعاها الحكومة قنبلة كُتِب عليها "عقوبات"، وتلقي باللوم على الاتحاد الأوروبي في "تدميرنا"، ورفض أوربان تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وقد تلكأ بالموافقة على توسع حلف شمال الأطلسي أثناء إبرامه صفقات طاقة مع روسيا.
في كلمته الإذاعية المعتادة، قال أوربان في 31 مارس إنَّ الناس قد يبدأون في التشكيك في "وجود الاتحاد الأوروبي برمته" بسبب دعمه لأوكرانيا، وبعد أسبوعين، قال إنَّ سحب المساعدات سينهي الحرب.
أجنيس أوربان، مديرة "ميرتيك ميديا مونيتور"، وهي هيئة مراقبة إعلامية في بودابست، قالت إن "المجر لم تفلح أبداً في استيعاب قيم الاتحاد الأوروبي حقاً، فقد كان الأمر في حقيقته يتعلق بالمال، أما وقد صارت الأموال لا تتدفق الآن، أضف إلى ذلك الدعاية، فسيكون للاثنين معاً تأثير قوي".
بينما كان أوربان يتودد إلى روسيا والصين خلال حكمه المتواصل منذ عام 2010، ظلّ المجريون على نطاقٍ واسع مؤيدين للاتحاد الأوروبي. لكن مع مواجهة اقتصاد البلاد ركوداً عميقاً وتضخماً يتجاوز 25%، فإن هذا التأييد ينهار الآن، والأكثر إثارة للاهتمام هو انضمام الشباب بأعداد كبيرة لحزب معارض مناهض لحلف شمال الأطلسي.
يبلغ دعم الاتحاد الأوروبي بين المواطنين في المجر 39% حالياً، ما يضعها في المرتبة الخامسة من أسفل بين 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي جنباً إلى جنب مع جمهورية التشيك وسلوفاكيا في استطلاع "يوروباروميتر"، في حين ان هذه النسبة كانت 51% قبل عام.
كما انخفضت هذه الرؤية الإيجابية تجاه الاتحاد الأوروبي بشكل حاد في بولندا، بمقدار 8 نقاط مئوية، رغم أنها لا تزال 55%.
وأفصح مفوض الميزانية الأوروبية يوهانس هان، الذي سيلتقي مع أوربان الأسبوع المقبل في بودابست، أنه يشعر بالقلق إزاء صعوبة استعادة الدعم، مع ذلك، فهو لا يعتقد بأن عضوية المجر في الاتحاد الأوروبي على المحك، مضيفاً في مقابلة: "يعرف الناس مدى استفادتهم من الاتحاد الأوروبي. الثقة في المؤسسات الأوروبية أعلى منها في الأحزاب الوطنية".
في بروكسل، يُعزى التراجع على نطاق واسع إلى سيطرة أوربان على وسائل الإعلام. في الواقع، اعتاد مستخدمو وسائل المواصلات في بودابست على رؤية اللوحات الإعلانية السياسية كجزء من هجوم أوربان على من يعتبرهم أعداء للدولة.
المستثمر المجري المولد جورج سوروس، وطالبو اللجوء، ومجتمع الميم، ورئيس المفوضية الأوروبية السابق جان كلود يونكر، كانوا أهدافاً للحملات الإعلامية. غير أن أغنيس أوربان، من "ميرتيك ميديا مونيتور"، تُنوّه بأن المزاج قد تغير.
وتوضح: "بينما كانت الدعاية الحكومية قبل ذلك تدور حول محاربة "أكباش فداء" محددين، اتخذت العام الماضي بُعداً جديداً لتستهدف الآن بشكل مباشر التحالفات الغربية للمجر. إنه تحول جيو سياسي حقيقي".
بينما ينظم حزب تحالف الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا، وهو مظلة تنضوي تحت لوائها الأحزاب الليبرالية في الاتحاد الأوروبي، حملة مؤيدة للاتحاد، تشارك فيها الولايات المتحدة أيضاً كهجوم المضاد. فالإعلانات الأخيرة التي مولتها السفارة الأميركية تحمل شعار "الروس يعودون إلى ديارهم"، وهي صرخة مناهضة للغزو السوفييتي للمجر عام 1956 أُطلقت على خلفية هجوم روسيا الحالي على أوكرانيا.
متحدث باسم سفارة واشنطن في بودابست أفصح أنه نظراً لسيطرة الحكومة على الكثير من وسائل الإعلام في المجر، فإن الولايات المتحدة ستواصل التواصل مباشرةً مع المجريين. في حيت اعتبر الوزير غيرغيلي غولياس في 12 أبريل أن اللوحات الإعلانية تُبيّن أن الولايات المتحدة تقوم الآن بحملة مباشرة في المجر.
دانييل بيرغ، عضو حزب "مومنتم" المعارض والذي يساعد في تنسيق حملة تحالف الأحزاب الليبرالية، قال "ربما تكون المجر هي الدولة العضو الوحيدة التي تنتهج حملة مناهضة لأوروبا، على هذا النطاق على الأقل، هذا أحد الأسباب التي دفعتنا إلى إطلاق هذه الحملة للقول إن هذه الأرض الموعودة خارج الاتحاد الأوروبي غير موجودة".