تراجع استهلاك الديزل عالمياً يُنذر بإشعال شرارة الركود الاقتصادي
بدأت مؤشرات التباطؤ الاقتصادي في الظهور عبر سوق الديزل العالمية، حيث هبط عدد الشاحنات العاملة على الطرق السريعة في الصين بصورة كبيرة خلال الأسابيع الأخيرة، وفي أوروبا، بلغ فارق علاوة سعر الديزل عن العقود الآجلة للنفط الخام مؤخراً أدنى مستوياته منذ ما يفوق السنة.
وتشير "ستاندرد أند بورز غلوبال" إلى أن حجم طلب الولايات المتحدة الأميركية يتجه للتراجع 2% خلال 2023، وهو التراجع الذي سيكون أكبر هبوط لاستخدام الديزل في أميركا منذ 2016، عدا 2020، عندما تعطل جزء كبير من الاقتصاد لمدة محدودة.
قال ديبنيل شودري، رئيس قسم الوقود وأعمال التكرير في "ستاندرد أند بورز" بمنطقة الأميركتين، إننا "نتصور الوقوع في أحد أسوأ المناخات الاقتصادية العالقة بالذاكرة القريبة بخلاف الأزمة المالية خلال 2008-2009 ووباء كورونا".
بصرف النظر عن طريقة تفسير الوضع، فإن الطلب على وقود تشغيل المعدات الثقيلة الذي يحرك كل شيء بداية من أساطيل الشاحنات التجارية للنقل وصولاً إلى معدات البناء، يتدهور في العديد من أكبر اقتصادات العالم.
ومع الأخذ في الاعتبار أن الانخفاض يمثل إشارة مبكرة لضعف النشاط الصناعي وتقليص الإنفاق الاستهلاكي، فإن الهبوط جعل مراقبي الركود على درجة عالية من التأهب.
قال بن آيرز، كبير خبراء الاقتصاد في الولايات المتحدة في "نيشن وايد إيكونوميكس" (Nationwide Economics): "يمكن أن يمثل الطلب على الديزل مؤشراً أساسياً للنمو على نطاق أوسع كمؤشر مبكر على أن إنفاق الأسر آخذ بالتراجع، كما يتماشى هبوط الطلب المتوقع على الديزل مع مخاطر الركود في كافة أنحاء الاقتصاد".
بمجرد أن عطّل الوقود الأكثر نشاطاً حول العالم التدفقات التجارية، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، هبطت أسعار الديزل في ظل مخاوف من أن العديد من أكبر الاقتصادات العالمية ستواجه مصاعب مستقبلية. يتوقع خبراء الاقتصاد وجود فرصة حدوث ركود في الولايات المتحدة بنسبة 65% مقابل 49% بالنسبة لأوروبا العام المقبل. تتعرض الصين لخطر أقل، لكن تعافي البلاد من قيود مرض كوفيد -19 السابقة الصارمة سيتطلب وجود حاجة لتحسن كبير في ثقة المستهلكين وبطريقة سريعة.
يعود قدر كبير من هبوط الطلب على الديزل إلى الشاحنات، حيث تستهلك 60% من الديزل في الصين وما يفوق 70% في الولايات المتحدة الأميركية. وتراجع عدد الشاحنات العاملة على الطرق السريعة الصينية 8% خلال الأسبوع المنتهي بـ9 أبريل الجاري، بحسب بيانات رصدتها وزارة النقل الصينية. بلغت مخزونات الديزل التجارية عبر كافة أنحاء البلاد، عدا مصافي التكرير الحكومية، أعلى مستوياتها خلال 8 شهور في أوائل أبريل الحالي، بحسب بيانات "أويل كيم" (OilChem).
يأتي تراجع الطلب إثر انخفاض نشاط التصنيع الصيني بصورة غير منتظرة في مارس الماضي، بحسب استطلاع رأي خاص، ما أضعف من مؤشرات أداء المصانع بكافة أنحاء آسيا. أوضحت دافني هو، كبيرة محللي شركة "وود ماكنزي" (Wood Mackenzie)، أن الأسواق الناشئة بالمنطقة بما فيها إندونيسيا - حيث شرعت الحكومة في تخفيض دعم الوقود - تعاني أيضاً من ضعف الطلب نتيجة تباطؤ النمو الاقتصادي.
تبرز اتجاهات مشابهة في مناطق أخرى حول العالم. وقال كوين ويسيلز، كبير محللي منتجات النفط في شركة "إنرجي أسبكتس" (Energy Aspects): "اتسم الطلب الأوروبي بالضعف في أثناء الشتاء بسبب الطلب المحدود على التدفئة، والظروف غير المواتية للاقتصاد الكلي التي تلقي بظلالها على توقعات الطلب".
ذكر بوب كوستيلو، كبير خبراء الاقتصاد بمجموعة الضغط التي تسمى "جمعيات النقل بالشاحنات الأميركية" (American Trucking Associations)، أن النقل بالشاحنات - ومن ثم الديزل - في الولايات المتحدة الأميركية تضرر من تراجع إنتاج المصانع وبناء المنازل وارتفاع مخزونات شركات تجارة التجزئة. بمقياس واحد من شركة تحليل بيانات سلاسل التوريد "فرايت ويفز" (FreightWaves)، بلغ حجم النقل بالشاحنات خلال مارس الماضي أدنى مستوياته الموسمية خلال 5 أعوام.
يعود السبب الرئيسي في تباطؤ النقل بالشاحنات في الولايات المتحدة إلى تحول في أنماط الإنفاق الاستهلاكي، حيث أفسح التدفق المستقر للطلبات عبر الإنترنت، للتخلص من الضجر الناجم عن الوباء، المجال أمام الإجازات والتجارب.
بينما يضغط التضخم على ميزانيات الأسر، فإن أول ما يتوقف الأشخاص عن شرائه هو ما يُعرف في قطاع النقل بالشاحنات باسم "شحنات الكميات الضخمة" أو السلع الاستهلاكية الرخيصة المعبأة على غرار المشروبات الغازية.
أوضح كريغ فولر، الرئيس التنفيذي لـ"فرايت ويفز": في أي وقت نشاهد المستهلكين مضغوطين جراء التضخم، فإن ذلك يؤثر على السلع الرخيصة التي تتطلب النقل بكميات ضخمة". تعزز القرارات الفردية على غرار الابتعاد عن المشروبات الغازية التأثير العام الذي يحد من الحجم الإجمالي للسلع المنقولة عبر الاقتصاد.
سيصبح تراجع الطلب على الديزل في الولايات المتحدة واضحاً، خاصة في مناطق الساحل الغربي، إذ باتت تعاني من ضغوط مالية نتيجة عمليات التسريح الكبيرة للعمالة بقطاع التكنولوجيا والأزمة المصرفية المتفاقمة. سيترتب على ذلك هبوط الطلب على الديزل 5% العام الجاري، أي ما يفوق ضعف المتوسط على المستوى الوطني، وفق "شودري" من "ستاندرد أند بورز".
كما تتعرض الواردات الأميركية عبر الحاويات، وهي عامل أساسي لاستخدام الديزل من قبل الشاحنات والقطارات التي تنقلها عبر كافة أنحاء البلاد، لضغوط هي الأخرى. وفي لوس أنجلوس، بلغت الشحنات الواردة أدنى مستوياتها منذ مارس 2020. وبالنسبة للصين، التي تصدر العديد من هذه الشحنات بالأساس، تراجع معدل نقل الحاويات بالموانئ الرئيسية 5% في الأسبوع المنتهي بـ9 أبريل، بحسب بيانات رصدتها وزارة النقل الصينية.
قالت ميا قنغ، رئيسة خدمة النفط الصينية في شركة استشارات القطاع "إي أف جي" (FGE): "نتوقع اتجاهاً هبوطياً أكثر من الصعودي للطلب الصيني على الديزل خلال النصف الثاني من السنة الحالية، وفي ظل الظروف الاقتصادية غير المواتية عالمياً لا سيما في الغرب، ستكون الصين بحاجة للاعتماد على الاستهلاك المحلي لدعم أنشطتها التصنيعية".
قطعاً، لا تعد كافة الأمور بهذا القدر من السوء، إذ يُرجح أن يصعد طلب أوروبا على الديزل منخفض الكبريت 9% تقريباً بين مارس الماضي ويوليو المقبل، مدعوماً - جزئياً - بموسم السفر خلال فصل الصيف، بحسب جانيف شاه، كبير محللي شركة "ريستاد إنرجي" (Rystad Energy).
وستعيد السلطات الفرنسية في الأغلب ملء الاحتياطيات الاستراتيجية في النهاية، بعد أن ضخت ملايين البراميل من المنتجات البترولية استجابة لإضرابات عمالية واسعة النطاق.
لكن في الولايات المتحدة، دون برامج تحفيز حكومية لتنشيط الاقتصاد، لا يتوقع "فولر" من "فرايت ويفز" تعافي الطلب على الديزل في أي وقت قريب. ويختلف الطلب على الديزل عن البنزين، إذ تدفع الأسعار المرتفعة السائقين إلى التوقف تلقائياً عن العمل ويمكن للوقود الرخيص إعادتهم مرة ثانية للطرق.
اختتم "فولر" بقوله إن الأشخاص لا ينقلون المنتجات لمجرد أن تكلفة ذلك رخيصة، بل ينقلونها لأنه "يوجد شخص ما على الجانب الآخر طلبها وهو موجود هناك لتسلمها".