هل نزول قطرة بول بعد الوضوء ينقضه.. المفتي يجيب
نزول قطرة بول بعد الوضوء هل ينقض الوضوء، إنه السؤال الذي يتبادر إلى ذهن بعض الحالات المصابة بـ نزول قطرة بول بعد الوضوء ما يجعلهم يتحرون الأمر مخافة إبطال الصلاة.
وورد إلى دار الإفتاء سؤال حول نزول قطرة بول بعد الوضوء، وإجاب عنه مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام باستفاضة على الموقع الرسمي لدار الإفتاء ليعرف الجميع حكم نزول قطرة بول بعد الوضوء.
حكم نزول قطرة بول بعد الوضوء
سأل يقول: جاوزتُ الرابعة والستين، وعندي حالة قديمة جدًّا تسمى التنقيط في البول، ولا يتم التنقيط إلا بعد التبول وفي غضون 10 دقائق أو ربع ساعة عقب التبول، على الرغم من حرصي الشديد جدًّا على الاستبراء من البول وغسل الموضع بالماء عدة مرات عقب كل مرة، ورغم ذلك وبعد الوضوء وارتداء ملابسي الداخلية يَحدُث أن يتم نزول نقطة أو أقل رغمًا عني، وفي الآونة الأخيرة منذ عدة أشهر فكَّرتُ في وضع ثلاث طبقات من المناديل الورقية على الموضع بعد التبول وبعد الاستبراء والغَسل الجيدين، وأضع هذه الطبقات الورقية بين العضو والشورت.
- فهل يكفي ذلك الطهارةَ للصلاة؟
- وهل يجوز أثناء الصلاة وجود هذه الطبقات الثلاث الورقية؟
- وهل إذا نسيت التخلص من هذه الطبقات الورقية قَبْل كل صلاة تكون صلاتي صحيحة؟
- وهل صلواتي السابقة طوال سنوات عمري صحيحة قبل أَن أضع هذه الطبقات الورقية؟
وأجاب مفتي الجمهورية قائلا: حالتك أيُّها السائل الكريم من حالات العفو التي وجَّهَت الشريعة المكلفين إلى التَّلهي والإعراض عنها، ونَهَتْهم عن الالتفات إليها، ونبَّهتْهم إلى أن تتَبُّعَها والبحث فيها والفحص عنها هو نوعٌ من الوسوسة التي نُهِيَ الإنسان عنها وعن الاسترسال خلفها؛ فإن للشيطان فيها مدخلًا كبيرًا في إفساد العبادة.
فما تفعله من الاستبراء للبول، والغسل الجيد للموضع بالماء، هو كافٍ في حصول الطهارة للصلاة ولغيرها شرعًا، ولا تبالغ، ولا تلتفت إلى أي شيء بعد ذلك، كما أن صلاتك مع وجود المناديل الورقية صحيحةٌ شرعًا، حتى لو وجدت فيها بعد ذلك أثرًا أو نقطةً من البول، وإن كنا لا ننصحك بوضعها مرة أخرى حتى لا تزداد بك حالة الوسوسة والشك في الطهارة، فتقع في التكلف والحرج الشديد، وصلواتك بدون وضع هذه المناديل -سواء فيما سبق أو فيما يأتي- صحيحةٌ شرعًا، ولا حرج عليك.
وأضاف: المقرر شرعًا أن من نواقض الوضوء خروج شيء من السبيلين (القبل والدبر)، ويشمل ذلك البول والغائط وغيرهما؛ لقوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ [النساء: 43].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» متفق عليه.
وعن صفوان بن عسَّالٍ المُرادِي رضي الله عنه قال: «أَمَرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا كُنَّا سَفْرًا ألَّا نَنْزعَ خِفَافَنا ثلاثةَ أيامٍ بِليَالِيهنَّ، إلا من جنابة، ولكن من بولٍ، أو غائطٍ، أَو نومٍ» أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. فدلَّ هذا الحديث على أن النقض بالبول والغائط والنوم.
وروى الإمام عبد الرزاق في "المصنف" عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "إِنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ، وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ، وَالْفِطْرُ فِي الصَّوْمِ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ".
ومعنى انتقاضِ الوضوء في كلام الفقهاء: أنَّه لا يصح فعل أي شيء من العبادات التي اشترط الشرع الشريف لها الطهارة، إلا أنَّ الفقهاء وضَّحوا بعض الحالات التي يُعذَر فيها الشخص من اشتراط الطهارة، فيُعفَى عنه حينئذٍ، سواء في كل الطهارة أو في بعضها؛ ومن ذلك: صلاة فاقد الطهورين، وكذا ما يعرف عند الفقهاء "بالسَّلَس"، ومعناه: استدامة انفلات الحدث من القُبُل أو الدُّبر مع العجز عن التحكم في منعه، ولو في فتراتٍ متقطعة.
والحالة المذكورة في السؤال لا تدخل في سلس البول؛ فإن الفقهاء يشترطون لكونها سلسًا -سواء أكان بولًا أم ريحًا أم غيرهما- أن يستغرق خروجُ الحدث بغير تحكم أكثرَ الوقت، فيكون حكمه في هذه الحالة حكمَ المرأة المستحاضة التي يسيل منها الدمُ مرضًا ونزيفًا لا حيضًا، وهو: وجوب غسل محل النجاسة، ثم الربط على عضو التبول، ثم الوضوء، ويصلِّي مَن هذا حالُه بهذا الوضوء ما يشاء من الصلوات، وينتقض وضوءُه بانتهاء وقت الصلاة المفروضة التي توضأ لها، ويتوضأ لفرض آخر بدخول وقته.
أمَّا هذه الحالة المذكورة في السؤال فهي من حالات العفو التي وجَّهَت الشريعة المكلفين إلى التَّلهي والإعراض عنها، ونَهَتْهم عن الالتفات إليها، ونبَّهتْهم إلى أن تتَبُّعَها والبحث فيها والفحص عنها هو نوعٌ من الوسوسة التي نُهِيَ الإنسان عنها وعن الاسترسال خلفها؛ فإن للشيطان فيها مدخلًا كبيرًا في إفساد العبادة.
فعَن أبي ثعلبة الخُشَنيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" و"مسند الشاميين"، والدار قطني في "السُنن"، والبيهقي في "السُنن الكبرى"، وصححه الحافظ ابن الصلاح وحسَّنه الإمام النووي.
قال العلامة التفتازاني في "شرح الأربعين النووية": [«فلا تبحثوا عنها» ولا تسألوا عن حالها؛ لأنَّ السؤال عما سكت الله عنه يفضي إلى التكاليف الشاقة، بل يحكم بالبراءة الأصلية] اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال خطَبَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا»، فقال رجلٌ: أَكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟ فسكَتَ، حتَّى قالها ثلاثًا، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ثمَّ قال: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» متفق عليه.
قال العلامة المناوي في "فيض القدير": [أي اتركوني من السؤال مدة تركي إياكم فلا تتعرضوا لي بكثرة البحث عما لا يعنيكم في دينكم مهما أنا تارككم لا أقول لكم شيئًا؛ فقد يوافق ذلك إلزامًا وتشديدًا، وخذوا بظاهر ما أمرتكم ولا تستكشفوا كما فعل أهل الكتاب، ولا تكثروا من الاستقصاء فيما هو مبيَّن بوجه ظاهر وإن صلح لغيره لإمكان أن يكثر الجواب المرتب عليه فيضاهي قصة بني إسرائيل الذين شَدَّدوا فتشُدِّد عليهم، فخاف وقوع ذلك بأمته صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
ولتيسير الأمر على المُكلَّف فقد تعاملت الشريعة مع مسألة الاستبراء من البول تعاملًا إجرائيًّا؛ يفعل فيه المكلَّف ما يساعده على نفي الشك في طهارته، ويقطع عليه طريق الوسوسة، ويساعده على عدم الالتفات إليها، ويغلق عليه مداخل الشيطان فيها؛ وذلك بأمرين يسيرين هما: النَّتْرُ، والنَّضْحُ.
- فأما "النَّتْرُ" فهو: أن يمرُّ إصبعًا من أصابعه أسفل القضيب، ليُخرج بقيةً، إن كانت، بقدر ما يغلب على ظنه أنَّ الخارج قد انقطع؛ لِمَا أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود في "المراسيل"، وابن ماجه في "السنن" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِذَا بَال أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلاثًا».
وفي معنى "النَّتْرِ": التنحنحُ والقيامُ والقعودُ، على اختلافٍ بين الفقهاء في بعض هذه الإجراءات؛ مشروعية وكيفية، ومردُّ ذلك كله إلى اختلاف أحوال الناس وما يعهدونه مِن عاداتهم وما تنتهي إليه غلبةُ ظنهم في انقطاع الخارج، مع اتفاقهم جميعًا على أن المبالغة في ذلك بدعةٌ منهيٌّ عنها:
فعند الحنفية:
قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (1/ 344، ط. دار الفكر): [يجب الاستبراء بمشي أو تنحنح أو نوم على شقه الأيسر، ويختلف بطباع الناس] اهـ.
قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته رد المحتار" (1/ 344، ط. دار الفكر): [وبعضهم عبر بأنه فرض، وبعضهم بلفظ "ينبغي" وعليه فهو مندوب كما صرح به بعض الشافعية، ومحله: إذا أمن خروج شيء بعده، فيندب ذلك؛ مبالغةً في الاستبراء، أو المراد: الاستبراء بخصوص هذه الأشياء من نحو المشي والتنحنح، أما نفس الاستبراء حتى يطمئن قلبه بزوال الرشح فهو فرض، وهو المراد بالوجوب، ولذا قال الشرنبلالي: "يلزم الرجلَ الاستبراءُ حتى يزول أثرُ البول ويطمئن قلبه. وقال: عبرت باللزوم لكونه أقوى من الواجب؛ لأن هذا يفوت الجواز لفوته فلا يصح له الشروع في الوضوء حتى يطمئن بزوال الرشح" اهـ. (قوله: ويختلف بطباع الناس) هذا هو الصحيح، فمن وقع في قلبه أنه صار طاهرًا جاز له أن يستنجي؛ لأن كلَّ أحدٍ أعلمُ بحاله ضياء] اهـ.
وعند المالكية:
جاء في "البيان والتحصيل" (1/ 52، ط. دار الغرب الإسلامي) للعلَّامة أبي الوليد بن رشد الجَدِّ المالكي [ت520هـ]: [مسألة: في الاستبراء من البول. وسُئل عما يعمل الناس عند البول من أن يبول الرجل ثم يقوم فيقعد ثم يكثر السَّلت، قال: ليس ذلك بصواب، وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن به حرارة شديدة وإن كان ليقوم في الشيء القريب مرارًا فيبول مرارًا ويتوضأ ويرجع مكانه، فما رأيت أحدًا كان أسرع رجوعًا منه ولا أخف وضوءًا، فذكر ذلك لابن هرمز، فقال: إنه فقيه، وأعجبه ذلك منه] اهـ.
وقال الإمام شهاب الدين القرافي المالكي [ت684هـ] في "الذخيرة" (1/ 211، ط. دار الغرب الإسلامي): [ليس عليه أن يقوم ويقعد ويتنحنح، لكن يفعل ما يراه كافيًا في حاله، ويستبرئ ذلك بالنفض والسلت الخفيف] اهـ.
وقال العلامة ابن الحاجِّ المالكي [ت737هـ] في "المدخل" (1/ 31، ط. دار التراث): [يتفقد نفسه في الاستبراء فيعمل على عادته؛ فرب شخص يحصل له التنظيف عند انقطاع البول عنه، وآخر لا يحصل له ذلك إلا بعد أن يقوم ويقعد، وذلك راجع إلى اختلاف أحوال الناس في أمزجتهم وفي مآكلهم واختلاف الأزمنة عليهم؛ فقد يتغير حاله بحسب اختلاف الأمر عليه، وهو يعهد من نفسه عادة فيعمل عليها فيخاف عليه أن يصلي بالنجاسة، أو يتوسوس في طهارته فيعمل على ما يظهر له في كل وقت من حال مزاجه وغذائه وزمانه؛ فليس الشيخ كالشاب، وليس من أكل البطيخ كمن أكل الجبن، وليس الحر كالبرد ... قال الإمام أبو عبد الله القرشي رحمه الله: "إذا أراد الله بعبد خيرًا يسر عليه الطهارة"] اهـ.
وقال العلَّامة الدرير المالكي [ت1201هـ] في "الشرح الكبير" (1/ 110، ط. دار الفكر): [المدار على حصول الظن بانقطاع المادة] اهـ.
وقال العلامة الدسوقي المالكي [ت1230هـ] في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 110، ط. دار الفكر): [(قوله: ولا يتبع الأوهام) أي: فإذا غلب على ظنه انقطاع المادة من الذكر ترك ذلك السلت والنتر ولا يعمل على ما عنده من توهم بقاء شيء في الذكر من المادة، وما شك في خروجه بعد الاستبراء كنقطة؛ فمعفوٌّ عنها] اهـ.
وعند الشافعية:
قال إمام الحرمين في "نهاية المطلب" (1/ 102، ط. دار المنهاج): [ويهتمَّ بالاستبراء، فيمكثَ بعد انقطاع القطر، ويتنحنح، وكلٌّ أعرَف بطبعه، والنتر مما ورد الخبر فيه، وهو أن يمرَّ إصبعًا من أصابعه أسفل القضيب، ليُخرج بقيةً، إن كانت] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (2/ 91، ط. دار الفكر): [والمختار أنَّ هذا يختلف باختلاف الناس، والمقصود: أن يظن أنه لم يبقَ في مجرى البول شيء يخاف خروجه؛ فمن الناس من يحصل له هذا المقصود بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكراره، ومنهم من يحتاج إلى تنحنح، ومنهم من يحتاج إلى مشي خطوات، ومنهم من يحتاج إلى صبر لحظة، ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا، وينبغي لكل أحدٍ أن لا ينتهي إلى حد الوسوسة. قال أصحابنا: وهذا الأدب وهو النتر والتنحنح ونحوهما مستحب، فلو تركه فلم ينتر ولم يعصر الذكر واستنجى عقيب انقطاع البول ثم توضأ؛ فاستنجاءه صحيح ووضوؤه كامل؛ لأنَّ الأصل عدم خروج شيء آخر. قالوا: والاستنجاء يقطع البول فلا يبطل استنجاءه ووضوؤه إلا أن يتيقن خروج شيء] اهـ.
وعند الحنابلة:
روى الإمام أبو بكر الخلال الحنبلي في كتاب "الطهارة": عن حنبل بن إسحاق بن حنبل قال: قلت لأبي عبد الله: إني أجد بلة بعد الوضوء! فقال: "ضع يدك في سفلتك، واسلت ما ثم حتى ينزل، وتتردد قليلًا، والْهَ عنه، ولا تجعل ذلك من همك، فإن ذلك من الشيطان يوسوس". نقله الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (11/ 358، ط. الرسالة).
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "شرح العمدة" (1/ 150، ط. العبيكان): [وإن احتاج إلى نحنحة أو مشي خطوات لذلك فعل، وقد أحسن. وقيل: بل يكره؛ لأنَّه وسواس وبدعة] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (1/ 136، ط. مؤسسة الرسالة): [وظاهره يستحب ذلك كله ثلاثًا، وقاله الأصحاب، وذكر جماعة ويتنحنح، زاد بعضهم ويمشي خطوات، وعن أحمد رضي الله عنه نحو ذلك. وقال شيخنا: ذلك كله بدعة، ولا يجب باتفاق الأئمة، وذكر في "شرح العمدة" قولًا: يُكرَه نحنحةٌ ومشيٌ، ولو احتاج إليه؛ لأنَّه وسواس. وقال الشيخ: يستحب أن يمكث بعد بوله قليلًا، ويكره بصقه على بوله للوسواس] اهـ.
وأما "النَّضْحُ": فهو رش الفرج أو الثياب بالماء بعد الاستنجاء لدفع الوسواس؛ بحيث لو أحسَّ بعد ذلك في ثيابه بللًا أحاله على الماء ولم يلتفت إليه، ونصُّوا على أنَّ هذا من أنفع ما تندفع به الوسوسة، وأنه ليس شرطًا لصحة الطهارة. فأخرج الترمذي، وابن ماجه في "السنن": من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «جاءني جبريلُ فقال: يا مُحَمَّدُ، إِذَا تَوضَّأتَ فَانتَضِحْ».
وأخرج عبد الرزاق في "المُصنف"، والإمام أحمد في "المسند": من حديث سفيان بن الحكم، أو الحكم بن سفيان الثقفي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بال وتوضأ نضح فرجه.
وصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا توضأ نضح فرجه بالماء؛ كما نص عليه الإمام الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري، ونقله عنه الأمير الصنعاني في "التنوير" (5/ 256، ط. دار السلام).
وعقد لذلك أصحاب السنن أبوابًا في (النضح بعد الوضوء)؛ كما صنع ابن ماجه والترمذي، وكذلك فعل الإمامُ الحافظ البيهقي في كتاب "السنن الكبرى" حيث عقد بابًا سمَّاه: (باب الانتضاح بعد الوضوء لرد الوسواس).
قال العلَّامة الطيبي في "الكاشف عن حقائق السُنن" (3/ 780، ط. الباز): [الانتضاح بالماء هو: أن يأخذ قليلًا منه فيرش به مذاكيره بعد الوضوء؛ لينفي عنه الوسواس، وقد نضح عنه الماء، ونضحه به إذا رشه عليه. قيل: إنه صلوات الله عليه كان يفعل ذلك قطعًا للوسوسة، وقد أجاره الله تعالي عن تسليط الشيطان، لكن يفعله تعليمًا للأمة، أو يفعله ليرتد البول، ولا ينزل منه الشيء بعد الشيء] اهـ.
وقال الشيخ الأمير الصنعاني في "التنوير على الجامع الصغير" (5/ 256): [والمراد به: رش الفرج بماء قليل بعد الوضوء، قيل: وحكمته إزالة الوسواس] اهـ.
وعلى ذلك جرى فعل الصحابة والسلف الصالح:
فأخرج الحافظ البيهقي في "السنن الكبرى" عن سعيد بن جبير أن رجلًا أتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: إني أجد بللًا إذا قمت أصلي، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "انضح بكأس من ماء، وإذا وجدت من ذلك شيئًا فقُلْ: هو مِنْه"، فذهب الرجل فمكث ما شاء الله، ثم أتاه بعد ذلك فزعم أنه ذهب ما كان يجد من ذلك".
وروى الإمام مالك في "الموطأ" عن الصلت بن زُيَيْدٍ، أنه قال: سألت سليمان بن يسار عن البلل أجده، فقال: "انضَحْ ما تحت ثوبك بالماء والْهُ عنه".
ونصَّ على ذلك أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة:
فقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني بعد أن روى أثر سليمان بن يسار في "الموطأ" (1/ 42، ط. دار الكتب العلمية): [وبهذا نأخذ، إذا كثر ذلك من الإنسان، وأدخل الشيطان عليه في الشك، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله] اهـ.
وعدَّ السادة الحنفية النضحَ من سنن الوضوء لمن به وسوسة؛ كما ذكره العلامة السُّغْديُّ الحنفي [ت461هـ] في "النُّتَف في الفتاوى" (ص: 22، ط. دار الفرقان).
وقال العلَّامة بدر الدين العيني الحنفي في "شرح أبي داود" (1/ 389، ط. الرشد): [وقوله: "إذا توضأت فانتضح" فيه تأويلات.. الثالث: رش الإزار الذي يلي الفرج بالماء، ليكون ذلك مُذهبًا للوسواس كما جاء في الحديث الأول] اهـ.
وقال العلامة ابنُ نُجَيْم الحنفي في "البحر الرائق" (1/ 253، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولو عرض له الشيطان كثيرًا لا يلتفت إليه، بل ينضح فرجه بماء أو سراويله؛ حتى إذا شك حمل البلل على ذلك النضح ما لم يتيقن خلافه] اهـ.
وفي "المدونة" في فقه الإمام مالك (1/ 120، ط. دار الكتب العلمية): [ابن وهب عن القاسم بن محمد أنه قال في الرجل يجد البِلَّة قال: إذا استبريت وفرغت فارشُشْ بالماء] اهـ.
وقال الإمام البغوي الشافعي [ت516هـ] في "شرح السنة" (1/ 391، ط. المكتب الإسلامي): [قيل: المراد بالانتضاح هو الاستنجاء بالماء، وقيل: المراد منه رش الفرج، وداخلة الإزار بالماء بعد الاستنجاء ليدفع بذلك وسوسة الشيطان] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرح مسلم" (3/ 150، ط. إحياء التراث العربي): [قال الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماءٍ قليلٍ بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس، وقيل: هو الاستنجاء بالماء] اهـ.
وقال الحافظ العراقي في "طرح التثريب" (2/ 48، ط. إحياء التراث العربي): [وأمَّا مَا ورد من نضح الثوب بعد الاستنجاء فليس ذلك للتطهير، وإنما هو لدفع الوسواس حتى إذا وجد بللًا أحاله على الرش لتذهب عنه الوسوسة والله تعالى أعلم] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي [ت620هـ] في "المغني" (1/ 115، ط. مكتبة القاهرة): [ويستحب أن ينضح على فرجه وسراويله؛ ليزيل الوسواس عنه. قال حنبل: سألت أحمد قلت: أتوضأ وأستبرئ، وأجد في نفسي أني قد أحدثت بعد؟ قال: إذا توضأت فاستبرئ، وخذ كفًّا من ماء فرُشَّهُ على فرجك، ولا تلتفت إليه، فإنه يذهب إن شاء الله] اهـ.
وقال العلَّامة البُهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 39، ط. عالم الكتب): [ومن ظن خروج شيء، فقال أحمد: لا يلتفت إليه، حتى يتيقن، والْهُ عنه؛ فإنه من الشيطان، فإنه يذهب إن شاء الله تعالى] اهـ.
والمقصود من النضح والنتر وما في معناهما: ألَّا يلتفت المكلَّف إلى شيء بعد ذلك، وأن يستمر في اعتقاد طهارته حتى ولو ظن خروجَ شيء منه، وعلى ذلك جرى عمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: فعقد الإمام الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني في "المصنف" بابًا سمَّاه: (باب قطر البول ونضح الفرج إذا وجد بللًا)، وكذلك عقد الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" بابًا سمَّاه: (الرَّجُلُ يَجِدُ الْبِلَّةَ وَهُوَ يُصَلِّي).
فأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إن الشيطان يُطِيفُ بالعبد ليقطعَ عليه صلاته، فإذا أعياه نفخ في دبره، فلا ينصرفْ حتى يسمعَ صوتًا أو يجد ريحًا، ويأتيه فيعصر ذَكَرَه فيُرِيه أنه أُخرِجَ منه شيء، فلا ينصرفْ حتى يَسْتَيْقِنَ".
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة -واللفظ له- في "المصنف": عن المعتمر، عن أبيه: أن زيد بن ثابت، وحذيفة رضي الله عنهما، والحسن البصري، وعطاءً رحمهما الله، "لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِالْبِلَّةِ يَجِدُهَا الرَّجُلُ وَهُوَ يُصَلِّي"، إلا أن عطاءً قال: "إِلَّا أَنْ تَقْطُرَ"، قال: وقال سعيد بن المسيب: "فَإِنْ قَطَرَ عَلَى رِجْلِكَ فَلَا يَرَى هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ إِعَادَةً وَلَا طُهُورًا".
وأخرج عبد الرزاق في "المصنف": أن عمر رضي الله عنه قال وهو على المنبر: "إنه لينحدر شيء مثل الجمان، أو مثل الخرزة، فما أباليه".
وقال ابن المبارك: "إذا شك في الحدث، فإنه لا يجب عليه الوضوء، حتى يستيقن استيقانًا يقدر أن يحلف عليه" ذكره الإمام الترمذي في "الجامع".
وبذلك صرَّح الفقهاء من مختلف المذاهب الفقهية:
قال العلَّامة ابن رشد المالكي [ت520هـ] في "البيان والتحصيل" (1/ 52، ط. دار الغرب الإسلامي): [فقال له الرجل: إني أجد الشيء يخرج مني بعدما أبول فلا تطيب نفسي، فقال: إنما ذلك من الشيطان، وكره ذلك.
قال محمد بن رشد: قد تكرر هذا المعنى في رسم "الوضوء والجهاد" بأوعبَ من هذا، وليس فيه ما يشكل فيتكلم عليه؛ لأنه من فعل الشيطان ووسوسته التي أقدره الله عليها ومكنه منها ابتلاءً لعباده؛ ليجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بعصيانه، فهو يلبس على الناس ويفسد عليهم طاعتهم بما يلقي في نفوسهم من التقصير فيها، فالذي يؤمر به من اعتراه شيء من ذلك: أن يُضرِب عنه ولا يلتفت إليه، فإن ذلك يقطعه بفضل الله ورحمته. وقد سُئلَ ربيعة عن الرجل يمسح ذَكَرهُ من البول ثم يتوضأ فيجد البلل، فقال: لا بأس به، فقد بلغ محنته وأدَّى فريضته] اهـ.
وقد تكلَّم العلَّامةُ ابن رشد على ذلك بأبسط من هذا في "مسائل أبي الوليد بن رشد" (2/ 810، ط. دار الجيل): [وسئل، رضي الله عنه، عن رجلٍ يجد النقطة بعد وضوئه، ونصُّ السؤالِ: جوابك رضي الله عنك، في رجل يخرج من بيت الماء وقد استنجى بالماء، ثم تَوضأ، فيكون في الصلاة أو سائرًا إليها، فيجد نقطة هابطة، فيفتش عليها، فتارةً يجدها، وتارةً لا يجدها، ويعتريه ذلك يكاد في كل صلاة، فيحصل له من ذلك -إن لم يتحفظ- أن يُعيد الوضوء مِن مَسِّ ذَكَرهِ، ويجد من ذلك في نفسه وجدًا عظيمًا؟
فأجاب وفقه الله على ذلك بهذا الجواب، ونَصُّهُ: إذا اعتراه ذلك كثيرًا، كما ذكرت، فلا يلتفت إليه، ويتمادى على صلاته، لأنَّ ذلك علة قد استنكحته، ودينُ الله يُسْر، والله ولي التوفيق لا شريك له. وسُئِل، رضي الله عنه، عن الرجل يستنجي بالماء، ثم يخاف أن يهبط نقطة فتحدث له شغلًا. ونَصُّ السؤال: جوابك رضي الله عنك في الرجل يستنجي بالماء، ثم يريد الوضوء، فيعلم من نفسه أنه لا بد أن يهبط له بعد ذلك نقطة من بول، يقوم وينزل، ويصعد وينحدر، كي تهبط، وحينئذٍ يتوضأ، أيصلح هذا أم لا؟ فأجاب: لا ينبغي له أن يفعل شيئًا من ذلك، لأنَّ هذا وشبهه إنما هو وسواس من الشياطين، فإذا لم يلتفت إليه وتهاون به انقطع عنه إن شاء الله، وبالله التوفيق، لا شريك له] اهـ.
وقد تقرر في قواعد الفقه أنَّ الأصل في الصفات العارضة العدم، وأن الأصل في كل حادثٍ تقديره بأقرب زمن؛ قال العلَّامة ابن نُجيم الحنفي [ت970هـ] في "الأشباه والنظائر" (1/ 55، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته] اهـ.
ومعنى هذه القاعدة: أنه إذا وقع الاختلاف في زمن حدوث أمرٍ: نُسِبَ إلى أقرب أوقات ظهوره؛ فإنه الزمن المتيقَّن مِن وجود الأمر فيه، وأما ما قبله فهو مشكوك فيه؛ فيُؤخَذ باليقين ويُطرَح الشك.
قال العلَّامة ابن نُجيم: [وقد عمل الشيخان بهذه القاعدة، فحكما بنجاسة البئر إذا وجدت فيها فأرة ميتة من وقت العلم بها من غير إعادة شيء؛ لأنَّ وقوعها حادث فيضاف إلى أقرب أوقاته] اهـ.
وقال العلَّامة الحموي الحنفي [ت1098هـ] في شرحه عليه "غمز عيون البصائر" (1/ 218، ط. دار الكتب العلمية): [(قوله: وقد عمل الشيخان بهذه القاعدة)؛ ولذا كان قولهما قياسًا.. وفي "تصحيح القُدُوري" نقلًا عن "فتاوى العتَّابي": المختار قولهما] اهـ.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن ما تفعله من الاستبراء للبول؛ مكثًا عقب التبول، وغسلًا جيدًا للموضع بالماء، هو كافٍ في حصول الطهارة للصلاة ولغيرها شرعًا، بشرط أن لا تبالغ في ذلك، فإذا استبرأت من بولك فأدِّ عبادتك ولا تلتفت إلى أي شيء بعد ذلك، حتى ولو ظننت خروج شيء منك بعد الاستنجاء أو بعد الوضوء، فعليك أن تتلهَّى وتعرض عنه ولا تلتفت إليه، ولا يلزمك ما تفعله بعد ذلك مِن وضعٍ للمناديل الورقية، بل لا ننصحك بذلك حتى لا تقع في الوسوسة التي نهى الشرع عنها.
وأما الصلاة مع وجود هذه المناديل الورقية فهي جائزة شرعًا حتى لو وجدت فيها بعد ذلك أثرًا أو نقطة من البول؛ لأن الأصل إضافة الحادث لأقرب أوقات ظهوره، فالأصل في نقطة البول أن تكون قد ظهرت قبل زمن الكشف عنها مباشرة لا في زمن قبله، حتى لو أحسست بنزول شيء منك؛ فإن هذا الشعور بمجرَّده لا يضرُّك وليس ناقضًا لطهارتك، ولا مبطلًا لصلاتك.
ومَا وقَع طوال سنوات عمرك مِن صلواتك السابقة قبل وضع المناديل الورقية: فهو صحيح إنَّ شاء الله تعالى، ولا ننصحك بوضع هذه المناديل الورقية مرة أخرى حتى لا تزداد بك حالة الوسوسة والشك في الطهارة، فتقع في التكلف والحرج الشديد.