حكم تحية العلم والوقوف للسلام الوطني.. أمانة الفتوى تجيب
حكم تحية العلم والوقوف للسلام الوطني هو ما يريد معرفته الكثيرون في ظل دعاوى متشددة تحرم تحية العلم أو الوقوف للسلام الوطني ما يجعل من معرفة حكم تحية العلم والوقوف للسلام الوطني.
وورد إلى دار الإفتاء سؤال جول حكم تحية العلم والوقوف للسلام الوطني، وأجابت عنه أمانة الفتوى باستفاضة عبر الموقع الرسمي لدار الإفتاء ليعرف الجميع حكم تحية العلم والوقوف للسلام الوطني.
حكم تحية العلم والوقوف للسلام الوطني
سأل سائل يقول: نرجو بيان الحكم الشرعي في تحية العلم والوقوف للسلام الوطني؛ حيث يدَّعي بعض الناس أن ذلك محرَّم شرعًا لما فيه من تعظيم، والتعظيم لا يجوز للمخلوق، خاصةً إذا كان جمادًا؛ لأنه حينئذٍ يكون شِركًا أو ذريعةً إلى الشِّرك، وكذلك هو من التشبه بالكفار في عاداتهم القبيحة، كما أنه يعتبر بدعة؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم.
وأجابت أمانة الفتوى قائلة: لا مانع شرعًا من تحية العلم والوقوف للسلام الوطني؛ فكِلاهُما تعبير عن الحب لرمز الوطن وعلامته وشعاره، بل إنه لمَّا تواضع الناس وتعارفوا على كون ذلك دالًّا على احترام الوطن وتعبيرًا عن الانتماء ووسيلةً لإظهار ذلك في الشأن الوطني والعلاقات بين الدول، وأن تركه يشعر بالاستهانة أو قلة الاحترام، ويفضي إلى الخصام والشحناء وشق الصف والتراشق بالتهم بين أبناء الوطن أو المواقف المضادة في العلاقات الدولية، فإنه يتعين حينئذٍ الالتزام به ويصير واجبًا مطلوبًا شرعًا.
ولا يمكن القول بأن هذا من التعظيم المحرم؛ لأن التعظيم الممنوع هو ما كان على وجه عبادة المعظَّم، كما لا يمكن القول بأنه من التشبه بغير المسلمين المنهي عنه شرعًا؛ فالتشبه إنما يحرم فيما يتعلق بعقائدهم وخصوصياتهم الدينية إذا قصد المسلمُ بها التشبه.
العَلَم له عدة معانٍ في اللغة؛ منها: الفصل بَين الْأَرَضينِ، والشيء المنصوب في الطريق يهتدى به، والجبل، والرسم فِي الثَّوْب، والراية. انظر: "تاج العروس" للإمام الزبيدي (33/ 131-132، ط. دار الهداية).
والمراد منه هنا: هو خصوص الراية التي هي الآن رمز للوطن وعلامة للدولة. واعتبار العَلَم رمزًا كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام لا سيما في الحروب، وقد تضمَّن الشعر الجاهلي ذكر الرايات والأعلام والألوية؛ من ذلك قول عنترة العبسي:
وتَرَى بها الراياتِ تَخْفُقُ والقَنَا... وتَرَى العَجَاج كمثل بحر مُزْبِد
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ الرايات والألوية والأعلام، وعقد عليه المحَدِّثون أبوابًا في كتبهم؛ فقالوا: في "سنن أبي داود" (باب في الرايات والألوية)، و"سنن الترمذي" (باب ما جاء في الألوية)، و"سنن البيهقي" (باب ما جاء في عقد الألوية والرايات)، ونحوه.
وروى الإمامان الترمذي وابن ماجه عن سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوداء ولواؤه أبيض"، وروى الإمام أبو داود عن سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم رضي الله عنه قال: "رأيت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفراء"، وروى الترمذي عن جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض"، وروى الإمامان أحمد وابن ماجه عن الحارث بن حسان البكري رضي الله عنه قال: "قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، وبلال رضي الله عنه قائم بين يديه مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا، وإذا رايات سود، فسألت: من هذا؟ فقالوا: عمرو بن العاص رضي الله عنه قدم من غَزَاةٍ". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 127، ط. دار المعرفة): [كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مغازيه يدفع إلى رأس كل قبيلة لواء يقاتلون تحته] اهـ.
وللدلالة الرمزية للأعلام والرايات، فإنه قد جرتِ العادة بأن يعمد العدو إلى ضرب حامل الراية وإسقاطه قبل غيره؛ ليثبط من عزيمة الجيش؛ فمتى كان العَلَم مرفوعًا كان ذلك دالًّا على العزة والقوة والصمود، ومتى نُكِّس وسقط كان ذلك دالًّا على الهزيمة والذل والانكسار، وفي المقابل كان يحرص حامله على إبقائه مرفوعًا، ولو بذل في سبيل ذلك نفسه وروحه، لا لخصوص تعظيم القماش، بل لما يرمز إليه.
وقد روى الإمام البخاري في "صحيحه" عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ -يعني: في غزوة مؤتة-، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَإِنَّ عَيْنَىْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَتَذْرِفَانِ ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ».
وروى الإمام الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد السلام، ثم قال: «يَا أَسْمَاءَ، هَذَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِيكَائِيلَ مَرُّوا فَسَلَّمُوا عَلَيْنَا فَرُدِّي عَلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ لَقِيَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ مَمَرِّهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، فَقَالَ: لَقِيتُ الْمُشْرِكِينَ فَأُصِبْتُ فِي جَسَدِي مِنْ مَقَادِيمِي ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ فَأَخَذْتُ اللِّوَاءَ بِيَدِي الْيُمْنَى فَقُطِعَتْ، ثُمَّ أَخَذْتُهُ بِيَدِي الْيُسْرَى فَقُطِعَتْ، فَعَوَّضَنِي اللهُ مِنْ يَدِي جَنَاحَيْنِ أَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ مَعَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمَا، فَآكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا مَا شِئْتُ»، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ رضي الله عنها: هَنِيئًا لِجَعْفَرٍ مَا رَزَقَهُ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ لَا يُصَدِّقُ النَّاسُ، فَاصْعَدِ الْمِنْبَرَ فأَخْبِرْ بِهِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ جَعْفَرًا مَعَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ عَوَّضَهُ اللهُ مِنْ يَدَيْهِ سَلَّمَ عَلَيَّ» ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُ حَيْثُ لَقِيَ الْمُشْرِكِينَ، فَاسْتَبَانَ لِلنَّاسِ بَعْدَ الْيَوْمِ الَّذِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَعْفَرًا لَقِيَهُمْ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ.
وتحية العلم بنحو الإشارة باليد بهيئة معينة، أو الهتاف بالدعاء عند رفعه بأن تحيا البلاد، هو من قبيل الحركة أو الكلام، وإلف ذلك وتكراره -كما هو الحاصل- يجعله من العادات؛ إذ العادة هي: اسم لتكرير الفعل والانفعال حتى يصير سهلًا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعة ثانية. انظر: "المفردات" للراغب الأصفهاني (ص: 594، ط. دار القلم).
والأصل فيما كان كذلك الإباحة، ما لم يرد دليل على المنع؛ قال تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 119]، وروى الإمام الترمذي عن سيدنا سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِى كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِى كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ».
ثم إن هذه الممارسات والأفعال هي مما ارتبط عند الناس بحب الأوطان، وتواضعوا على دلالتها على ذلك، فصارت بذلك وسيلة عامة للتعبير عن حب الأوطان وإظهار الانتماء وتأكيد الولاء، وقد تقرر في قواعد الشريعة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان حب الوطن مِن المطلوبات الشرعية كما هو متقرر في أدلة الشريعة فإن وسيلتَه الجائزةَ في أصلها تكون كذلك مشروعة مطلوبة، ويتأكد ذلك إذا كان عدمُ القيام أمارةً عند الناس على عدم الاحترام.
أما السلام الوطني فهو عبارة عن مقطوعة موسيقية ملحَّنة على نشيد البلد أو الوطن تكون رمزًا للبلد أو الوطن تعزف في الحفلات العسكرية وبعض المناسبات العامة. والمختار أن الموسيقى من حيث هي لا حرمة في سماعها أو عزفها؛ فهي صوت حسنُه حَسَنٌ وقبيحه قبيح، وما ورد في تحريمها: صحيحُهُ غير صريح، وصريحُهُ غير صحيح.
وعدم التحريم هو المنقول عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعمرو بن العاص، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، ومن التابعين: خارجة بن زيد، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والشعبي، وأكثر فقهاء المدينة، وممن بعدهم: الشيخ أبو محمد بن حزم، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والشيخ عبد الغني النابلسي، وغيرهم خلق كثيرون.
وورد في كتاب "فرح الأسماع برخص السماع" للشيخ لأبي المواهب الشاذلي (ص: 12، ط. الهند): [ولما سئل سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام عن الآلات كلها، قال: مباح، فقال الشيخ شرف الدين التلمساني: يريد أنه لم يرد دليل صحيح من السنَّة على تحريمه، فسمعه الإمام عز الدين، فقال: لا، أردت أن ذلك مباح] اهـ.
وأفرد بالتصنيف في الكلام عن إباحتها جماعة من الأئمة؛ منهم: ابن حزم، وابن السمعاني، وابن القيسراني، والإدفوي، وأبو المواهب الشاذلي المالكي وغيرهم.
والسلام الوطني الشأن فيه هو الشأن في العَلمِ؛ من حيث كون كل منهما رمزًا، والوقوف عند عزفه ليس المراد منه إلا إظهار الاحترام والتقدير والإكرام لما يُمَثِّلُه، وهو الوطن. وحب الوطن أمر قد جُبِل عليه الإنسان؛ حتى قال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحُبِّ الوطن. انظر: "الحنين إلى الأوطان" للجاحظ (ص: 10، ط. دار الكتاب العربي).
وقد روى الإمام البخاري عن حميد الطويل أنه سمع أنسًا رضي الله عنه يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته -أي: أسرع السير بها-، وإن كانت دابة حركها". قال الإمام البخاري: زاد الحارث بن عمير عن حُمَيدٍ: حركها من حبها. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 621، ط. دار المعرفة): [وفي الحديث دلالة.. على مشروعية حب الوطن والحنين إليه] اهـ.
وقال الإمام ابن بطال في "شرحه" (4/ 453، ط. مكتبة الرشد): [قوله: من حبها؛ يعني: لأنها وطنه، وفيها أهله وولده الذين هم أحب الناس إليه، وقد جبل اللهُ النفوس على حب الأوطان والحنين إليها، وفعل ذلك عليه السلام، وفيه أكرم الأسوة] اهـ.
والتعبير عن هذا الحب الوارد في الحديث له دوال ومظاهر؛ منها ما يكون بالأقوال ومنها ما يكون بالأفعال، ومن ذلك قول الشاعر قيس بن المُلَوَّح:
أَمُرُّ عَلى الديارِ دِيارِ لَيلى ... أُقَبِّل ذا الجِدار وَذا الجِدارا
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي ... ولَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا
والأصل في ذلك كله الإباحة حتى يرد الدليل الناقل عنها، ومن جملة الأفعال المعبرة عن الحب القيامُ لرمز الوطن وعلامته وشعاره، وهو العَلم أو السلام الوطني؛ فالمحب يتعلق ويعتني بكل ما له صلة بمحبوبه، ولا يُذَمُّ مِن ذلك إلا ما ذَمَّه الشرع بخصوصه.
أما دعوى أن ذلك محرم شرعًا؛ لما فيه من تعظيم، والتعظيم لا يجوز للمخلوق، خاصة إذا كان جمادًا، فيجاب عنه بأن ذلك وإن كان فيه تعظيم، إلا أن القول بأن مطلق التعظيم لا يجوز للمخلوق هو قول باطل، بل الذي لا يجوز هو ما كان على وجه عبادة المعظم، كما كان يعظم أهل الجاهلية أوثانهم، فيعتقدون أنها آلهة وأنها تضر وتنفع من دون الله، وهذا هو الشرك.
أما ما سوى ذلك مما يدل على الاحترام والتوقير والإجلال فهو جائز، إن كان المُعَظَّم مستحقًّا للتعظيم، ولو كان جمادًا؛ وقد روى الإمام البخاري عن سيدنا عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه قال واصفًا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ".
وروى الإمامان أحمد والحاكم أن عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد رأيت من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمه -أي: العباس- أمرًا عجيبًا".
وروى الإمام البيهقي بسنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفًا، وتعظيمًا، وتكريمًا، ومهابة».
وروى الإمام الدارمي عن عكرمة بن عمرو بن هشام رضي الله عنه "أنه كان يضع المصحف على وجهه، ويقول: كتاب ربي، كتاب ربي".
وقال الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 265، ط. الإمارات): [ويقال: ومن تعظيم الله عزَّ وجلَّ تعظيم ذي الشيبة المسلم] اهـ.
وعليه: فإن تحية العلَم المعهودة أو الوقوف للسلام الوطني أمران جائزان لا كراهة فيهما ولا حرمة كما شغَّب به مَن لا علمَ له، فإذا كان ذلك في المحافل العامة التي يُعَدُّ فيها القيام بذلك علامة على الاحترام وتركه مشعرًا بترك الاحترام: فإن الوقوف يتأكَّد؛ فيتعيَّن فعلُه حينئذٍ؛ دفعًا لأسباب النفرة والشقاق، واستعمالًا لحسن الأدب ومكارم الأخلاق.