رهانات السوق للعام المقبل تخالف رسالة «الفيدرالي» حول الفائدة
يقف التاريخ بصف رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، جيروم باول، بينما يختلف هو وزملاؤه مع وول ستريت حول مدة بقاء أسعار الفائدة مرتفعة خلال 2023.
عقب أسرع وتيرة تشديد للسياسة النقدية منذ ثمانينيات القرن الماضي، يبدو أن البنك المركزي الأميركي مستعد يوم الأربعاء لرفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 50 نقطة أساس في تحول هبوطي يأتي بأعقاب 4 زيادات متتالية بـ 75 نقطة أساس بهدف كبح جماح معدلات التضخم في الولايات المتحدة.
سيرفع مثل هذا التحرك- الذي ألمح إليه مسؤولون كُثر- أسعار الفائدة إلى النطاق المستهدف الذي يتراوح ما بين 4.25% و4.5%، وهو الأعلى منذ 2007. رجح خبراء اقتصاد استطلعت آراؤهم "بلومبرغ" أنهم سيشيرون أيضاً إلى تشديد آخر قدره 50 نقطة أساس العام المقبل، وأنه بمجرد وصولهم إلى هذه الذروة، سيفضلون التوقف والإنتظار طوال 2023.
فرصة لتأكيد الرؤية
تتفق الأسواق المالية على الرؤية في المدى القريب، لكنها تتوقع حدوث هبوط سريع عن ذروة أسعار الفائدة بوقت لاحق من العام المقبل. ربما ينجم هذا التباين عن توقع المستثمرين تراجع حدة ضغوط الأسعار بصورة أسرع من الاحتياطي الفيدرالي الذي يخشى أن يستمر التضخم بمعدلاته المرتفعة بعد تعلمه الدرس من توقعاته الخاطئة سابقاً بأنه سيكون مؤقتاً، ومن الممكن أن يعكس أيضاً الرهانات على أن صعود معدلات البطالة سيكون مصدر قلق أكبر للاحتياطي الفيدرالي.
يشكل اجتماع الأسبوع الجاري بواشنطن فرصة جديدة لباول للتأكيد على وجهة النظر بأن المسؤولين يتوقعون زيادة أسعار الفائدة بهدف دحر التضخم- كما فعل أثناء الخطاب الذي ألقاه في 30 نوفمبر عندما شدد على أن السياسة النقدية ستظل متشددة "لفترة من الوقت".
خلال دورات رفع أسعار الفائدة الخمس الماضية، بلغ متوسط الحفاظ على مستوى ذروتها 11 شهراً، وكان التضخم خلال تلك الفترات أكثر استقراراً.
قال كونراد دي كوادروس، كبير المستشارين الاقتصاديين في"برين كابيتال" (Brean Capital): "كان الاحتياطي الفيدرالي يبعث برسالة تفيد بأن أسعار الفائدة ستبقى على الأرجح عند ذروتها لفترة من الوقت، وهذا هو الجزء من الرسالة الذي لم تدركه السوق باستمرار، وتعتبر توقعات مدى انخفاض التضخم مفرطة في التفاؤل".
رؤى متباينة في السوق
يتضح التباين بين حديث الاحتياطي الفيدرالي والمستثمرين عبر رؤيتين مختلفتين بشأن اقتصاد ما بعد وباء كورونا، حيث تُظهر وجهة نظر الأسواق بنكاً مركزياً موثوقاً يضع التضخم سريعاً على مسار هدفه البالغ 2%، ربما بمساعدة من ركود محدود أو القوى الكبابحة للتضخم والتي أبقت الأسعار متراجعة على مدى عقدين.
أوضح سكوت ثيل، كبير استراتيجيو الدخل الثابت في"بلاك روك"، أكبر مديرة للأصول في العالم، أن الأسواق المالية "ببساطة تأخذ في حسبانها دورة أعمال عادية".
تشير وجهة نظر معاكسة إلى أن قيود العرض ستمثل قوة تضخمية على مدى شهور وربما أعوام، إذ تؤثر إعادة ترسيم خطوط التوريد والظروف الجيوسياسية على مدخلات الإنتاج الحيوية بداية من الرقائق الإلكترونية والقوى العاملة الموهوبة وصولاً إلى النفط والسلع الأساسية الأخرى.
بحسب هذه الفرضية، ستتسم البنوك المركزية بالحذر حيال إحراز تقدم بشأن التضخم لأنه قد يكون مؤقتاً فقط أو يكون عرضة لبروز تحديات جديدة ينجم عنها ضغوط أسعار مستمرة لفترة طويلة.
يقول ثيل إن "المنافسة الاستراتيجية مسببة للتضخم ونتوقع أن يصبح التضخم أكثر استمراراً ولكننا نتوقع أيضاً أن يكون أكثر تقلباً وكذلك البيانات الاقتصادية الأوسع".
يراهن متداولو عقود المبادلة حالياً على أن فائدة التمويل لدى الاحتياطي الفيدرالي ستصل ذروتها عند أقل من 5% خلال الفترة من مايو إلى يونيو من العام المقبل، ثم ستتراجع بمقدار ربع نقطة مئوية بحلول نوفمبر المقبل تقريباً وسينهي سعر الفائدة العام عند نحو 4.5%.
سيمثل هذا الأمر إعلاناً سريعاً بصورة استثنائية بالانتصار على التضخم الذي يبلغ حالياً ثلاثة أضعاف هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2%.
تقديرات مبالغ فيها
قال جون روبرتس، كبير مصممي نماذج الاقتصاد الكلي السابق في الفيدرالي الأميركي والذي يُدير حالياً مدونة ويقدم المشورة لمديري الاستثمار: "يعد منحنى عائد العقود الآجلة أحد مظاهر نجاح أو فشل سياسة لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية في التواصل".
لا يرتبط الأمر فقط بتوقيت بدء خفض الفائدة وإنما بقدر ما يتوقعه متداولو سوق المال والذي يتجاوز المستويات التاريخية. بحسب مصرف "سيتي غروب"، فإن الخفض المتوقع لأسعار الفائدة والذي يفوق 200 نقطة أساس حالياً بأسواق العقود الآجلة، يعد الأعلى قبيل أي دورة تيسير للسياسة النقدية منذ 1989.
تشير العقود الآجلة إلى أن خفض فائدة التمويل لدى الاحتياطي الفيدرالي سيتوقف منتصف 2025، بحسب بيانات بلومبرغ.
لم يستبعد مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي نهائياً خدوث تباطؤ سريع لمعدلات التضخم. توقع جون ويليامز رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن يهبط التضخم السنة المقبلة إلى النصف ليتراوح بين 3% و3.5% تقريباً.
بدأ التباطؤ في تضخم أسعار السلع، وسيظهر تراجع أسعار إيجارات المنازل والشقق الجديدة في النهاية في صورة تكاليف مسكن أقل. هبطت أسعار الخدمات، عدا الطاقة والمسكن، وهو مؤشر أبرزه باول بخطابه الأخير بأكتوبر الماضي.
مسار طويل ووعر
يشعر المستثمرون بالتفاؤل أيضاً حيال ضغوطات الأسعار. وتتوقع عقود المبادلة التي تحتسب تأثير التضخم وسندات الخزانة الأميركية المحمية من التضخم هبوط أسعار المستهلكين بصورة كبيرة السنة المقبلة.
لكن يوجد أيضاً مؤشرات على أن مسار العودة لهدف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي البالغ 2% من الممكن أن يكون طويلاً ووعراً.
أضاف أصحاب الأعمال وظائف بوتيرة 272 ألف وظيفة شهرياً في الربع الماضي، ويعد هذا أبطأ من متوسط 374 ألف خلال الربع الذي يسبقه، لكنه ما يزال معدلاً قوياً وأحد أسباب صمود الطلب.
بيانات الوظائف الأميركية المرتقبة قد تدفع "الفيدرالي" لرفع الفائدة بوتيرة أكبر
يقول مسؤولو بنك الاحتياطي الفيدرالي إن التضخم تاريخياً يحمل صفة الاستمرارية، ما يعني أن استبعاده من ملايين قرارات التسعير التي تُدرس يومياً من قبل الشركات والأسر يحتاج لوقت طويل.
كما يقيس مسؤولو بنك الاحتياطي الفيدرالي إنجاز سياستهم من خلال الوصول بالتضخم إلى 2%، وليس 3%، وقد يمتنعون عن الشروع بتخفيض تكاليف الاقتراض في حال بقي التضخم عالقاً فوق هدفهم.
لا يرى ويليامز، على سبيل المثال، حدوث أي تخفيضات في سعر الإقراض الرئيسي حتى 2024 رغم أنه يتوقع تراجعاً بمقاييس التضخم السنة المقبلة.
قالت كاثرين كامينسكي، كبيرة الخبراء الاستراتيجيين بوحدة الأبحاث ومديرة محفظة الأصول بشركة "ألفا سيمبليكس غروب" (AlphaSimplex Group): "يفضل الأشخاص التركيز على عودة الأمور إلى حيث كانت، لكن يمكن لاتجاه (أسعار الفائدة الأعلى) السائد أن يستمر لوقت طويل، وهذا أمر يقلل الأشخاص من شأنه".