فورين بوليسي: عملية الفصل الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين صعبة للغاية
تخوض الولايات المتحدة والصين منافسة يمكن وصفها بأنها واحدة من أقوى المنافسات الدولية عبر التاريخ، وسط تنامي مشاعر الخوف في البلدين من تحول هذا التنافس إلى صراع. وتؤكد التوجيهات الاستراتيجية للأمن القومي الأمريكي الصادرة في مارس الماضي أن الصين هي "المنافس الوحيد المحتمل القادر على الجمع بين الاقتصاد والدبلوماسية والقوة العسكرية والتكنولوجية لتحدي النظام الدولي القائم".
وترى مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أنه رغم التباين الشديد في سياسة الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" وخليفته "جو بايدن"، إلا أنهما اتفقا على التحذير بشأن التهديد الاستراتيجي للصين، حيث سعى الرئيسان إلى انتهاج مسار "الفصل" جزئيا بين أكبر اقتصادين في العالم وتقليل اعتماد الولايات المتحدة على الصين، في حين حاول الرئيس الصيني "شي جين بينج" من جانبه تجنب الأعمال التجارية الأمريكية بالترويج ودعم سياسات "صنع في الصين"، و"الاستقلال والاعتماد على الذات" باعتبارها عقيدة للحزب الشيوعي الصيني الحاكم.
وذكرت المجلة الأمريكية أنه كان هناك فصل كبير في قطاعي التكنولوجيا الفائقة ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يعود السبب فيه إلى حد كبير إلى سياسات الرقابة الصارمة في الصين، حيث تم حظر "فيسبوك" في البر الرئيسي الصيني منذ عام 2009 لعدم امتثاله لقواعد الرقابة الصينية، وخرج محرك البحث "جوجل" من السوق الصيني بعد ذلك بسنوات، وأعلنت أمازون أنها ستغلق عمليات "كيندل" في الصين.
وأشارت المجلة إلى أن قيود بكين الصارمة على مشاركة المعلومات، إلى جانب التهديدات الأمريكية، أجبرت عددا كبيرا من شركات التكنولوجيا الفائقة الصينية، بما في ذلك شركة النقل التشاركي "ديدي" وعملاق التسوق الإلكتروني "علي بابا" ومحرك البحث "بيدو"، وشركات صناعة السيارات الكهربائية "نيو" و"إكس بينج موتورز"، على مواجهة احتمال "الشطب" من البورصة الأمريكية. كما حددت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية نحو 150 شركة أغلبها مقرها الصين، على أنها يمكن شطبها، بدعوى انتهاك قواعد التدقيق الأمريكية.
ولكن فيما يتعلق بالتجارة الشاملة بين الولايات المتحدة والصين في السلع والخدمات، فإن الفصل لم يحدث بأي طريقة مهمة حتى الآن، وليس من المرجح حدوثه، رغم الحرب التجارية التي بدأها ترامب ودعمها بايدن إلى حد ما.
وتجدر هنا الإشارة إلى أنه من السلع الزراعية إلى مجموعة من المواد الخام ومكونات التصنيع، تظل العلاقة الاقتصادية بين الجانبين عميقة وتنمو بشكل أكبر في العديد من القطاعات. ففي مايو الماضي، أفادت وزارة الزراعة الأمريكية بأن الصادرات الزراعية إلى الصين من المتوقع أن تصل إلى 36 مليار دولار في السنة المالية الحالية، أي أكثر من ضعف الرقم المسجل في السنة المالية 2020 والمقدرة عند 17 مليار دولار.
كما انخفض العجز التجاري الأمريكي مع الصين -حتى وإن كان شكليا- بصورة كبيرة، حيث انخفض بمقدار 8.5 مليار دولار ليصل إلى 34.9 مليار دولار في أبريل الماضي، وفقا لبيانات وزارة التجارة الأمريكية الصادرة الشهر الجاري.
ويقول خبراء في التجارة والاقتصاد إن الصين قررت إعادة توجيه صادراتها الأمريكية إلى دول أخرى، سيما فيتنام وماليزيا وإندونيسيا، حيث تهيمن الشركات المملوكة للصين على هذه الأسواق.
والملاحظ هنا أن العجز التجاري الأمريكي ارتفع بشكل كبير خلال العامين الماضيين مع الدول سالفة الذكر التي حولت بكين عملياتها نحوها، وكذلك مع دول أخرى مثل المكسيك، التي تلقت طفرة في الاستثمار التجاري الصيني في السنوات القليلة الماضية.. فيما تشير تقارير لوكالات عالمية إلى أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة في التجارة مع أمريكا اللاتينية.
وتؤكد "فورين بوليسي" أنه في هذه الأثناء، تواصل الشركات الأمريكية الاستثمار بكثافة في الصين، وأن هذه الشركات تعلن صراحة نيتها الاستمرار في القيام بذلك. ففي خطاب ألقاه في واشنطن شهر يونيو الجاري، وصف "إيفان جرينبيرج" الرئيس السابق لمجلس الأعمال الأمريكي الصيني، عملية الفصل بـ "استحالة اقتصادية"، وحث الشركات الأمريكية على مضاعفة جهودها لدخول السوق الصينية، معتبرا أن "الفصل لن يؤدي إلا إلى تغذية أسوأ غرائز الصين"، وفي الوقت نفسه تقويض القدرة التنافسية العالمية للولايات المتحدة.
ووفقا لمسح جديد أجرته غرفة التجارة الأمريكية في شنغهاي لأكثر من 300 شركة أمريكية في الصين، أبلغت 60 بالمائة عن زيادة استثماراتها مقارنة بعام 2020.
من جانبه، أشار "روبرت سكوت" الخبير بمعهد السياسة الاقتصادية التقدمي الأمريكي إلى أن معظم العلاقات التجارية المستمرة بين الجانبين مدفوعة بارتفاع الدولار؛ الأمر الذي يجعل الفصل أكثر صعوبة. وإن الإجراءات المشددة التي يتخذها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وشراء الأصول المالية الأمريكية على نطاق واسع كملاذ آمن، جعل من مسألة بيع السلع الأمريكية في الخارج أكثر تكلفة في الأشهر الأخيرة، وبالتالي أصبح شراء السلع الصينية أرخص كثيرا.
وأضاف سكوت أن المشكلة الأساسية التي لم نواجهها هي حقيقة أن الدولار الآن أعلى من قيمته الحقيقية بنسبة 25 إلى 30 في المئة.. كما أن جائحة كورونا ساهمت في القضاء على سلاسل البيع بالتجزئة المحلية الأمريكية، مما أدى بدوره إلى زيادة هيمنة عمالقة التسوق عبر الإنترنت مثل "أمازون" و"وول مارت" التي تعتمد على المنتجات الرخيصة القادمة من الصين والدول الأخرى ذات الأجور المنخفضة.
ولفتت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية إلى أنه في ظل الضغوط التضخمية، بدأت إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" التخفيف قليلا من خطابها ضد بكين، والنظر في رفع بعض الرسوم الجمركية على الصين التي سبق وفرضها سلفه ترامب.
كما أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين، في خطاب ألقاه أواخر مايو الماضي، أن "الولايات المتحدة لا تريد فصل اقتصاد الصين عن اقتصادها أو عن الاقتصاد العالمي، رغم أن بكين تسعى من جانبها إلى الفصل غير المتكافئ، وإلى جعل نفسها (الصين) أقل اعتمادا على العالم، بينما يكون العالم أكثر اعتمادا عليها".
ورغم ما سبق، بدأت تظهر درجة معينة من الفصل الأوسع في أرقام التجارة بين الدولتين. ويعتقد بعض الخبراء أن المزيد من الفصل سيحدث ببطء من تلقاء نفسه، لاسيما عندما تبدأ مخاوف حقوق الإنسان في التأثير على قرارات المستهلك، وذلك في إشارة إلى دعوات بحظر صادرات منطقة "شينجيانج" الإويجورية ذاتية الحكم أقصى شمال غربي الصين بسبب مزاعم حول انتهاكات حقوقية للسكان هناك.
وترى مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في دراسة جديدة أنه "بدون استراتيجية واضحة، تخاطر حكومة الولايات المتحدة بفعل القليل جدا أو -على الأرجح- أكثر من اللازم للحد من الاعتماد التكنولوجي المتبادل مع الصين"، محذرة من أنه "قد تشرع واشنطن بطريق الخطأ من أجل عملية فصل فوضوي جامح لا يمكن التنبؤ به أو السيطرة عليه".
ونبهت المؤسسة إلى أن واشنطن حظرت في السابق بشكل أحادي بيع تكنولوجيا الأقمار الصناعية إلى الصين، والنتيجة تمثلت في خسارة الشركات الأمريكية الإيرادات، في حين ملأ المنافسون الأوروبيون الفراغ وجنوا الأرباح، وحصلت الصين في النهاية على القدرات التي سعت إليها. كما انخفضت حصة الولايات المتحدة في سوق الأقمار الصناعية التجارية العالمية نتيجة لفرض الكونجرس قيودا على مبيعاتها للصين، حيث انخفضت هذه الحصة من 75 إلى 45 في المائة.
وأشارت "فورين بوليسي" إلى أنه توجد كذلك مخاطر مماثلة في قطاع أشباه الموصلات، الذي يعتمد على سلاسل توريد معقدة تمتد من بكين إلى قلب أمريكا، وأن التعاون والابتكار الأمريكي والصيني يضيف قيمة مهمة لهذا المجال، محذرة من أن الفصل في قطاع "أشباه الموصلات" يمكن أن يسلم قيادة هذا القطاع الحيوي إلى كوريا الجنوبية على المدى القريب، وإلى الصين في المستقبل.
ويبدو أنه رغم دعوات البعض لفض الارتباط والفصل بين الجانبين، إلا أن الواقع وتعقيدات الأمور في الارتباطات على كافة المستويات تشير إلى صعوبة كبيرة لتحقيق هذا الفصل.