محمود الغيطاني يرصد المشاعر المنتهية الصلاحية في السينما الصينية
في مشروع نقدي جديد يخص التأمل والبحث في السينما، انتهى الناقد السينمائي محمود الغيطاني من كتاب بحثي ونقدي جديد يهتم بالسينما الصينية مُمثلة في المُخرج الصيني وونج كار واي بعنوان “سينما المشاعر المُنتهية الصلاحية”.
الكتاب يصدر عن دار فضاءات الأردنية، ويشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي سيقام نهاية الشهر الجاري.
وأكد الغيطاني أن المُخرج يكاد يكون من أهم مُخرجي العالم في ابتكار أسلوبية سينمائية تخصه في صناعة السينما، وهي الأسلوبية التي جعلت العديدين من مُخرجي السينما في العالم يحاولون مُحاكاته فيها، كما ترك بأثره على مُخرجين آخرين بحجم المُخرج الأمريكي كوينتين تارانتينو الذي كان حريصا على توزيع فيلمه Chungking Express في أمريكا، بل وصُنع نسخة جديدة من فيلمه تخص الولايات المُتحدة.
وونج كار واي من أهم صُناع السينما في العالم؛ نظرا لأسلوبه الخاصة، كما احتل فيلمه "في مزاج للحب" 2000م المركز الثاني في الاستفتاء الذي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية عام 2016م والذي ضم رأي 177 ناقدا من حول العالم لاختيار أعظم مئة فيلم في القرن الحادي والعشرين، فضلا عن أنه يُعد الحاصد الأكبر للجوائز على مستوى العالم عن أفلامه التي بلغت عشرة أفلام كان آخرها في 2013م، بالإضافة إلى حصوله على السعفة الذهبية من مهرجان Cannes كان كأحسن مُخرج عن فيلمه "سُعداء معا" 1997م، وقد كان أول مُخرج صيني يحصل على هذه الجائزة.
يُقسم الغيطاني كتابه الجديد، الصادر في 268 صفحة من القطع الكبير إلى قسمين رئيسيين ومُقدمة، حيث يتناول في القسم الأول منه- وهو القسم البحثي حول سينما المُخرج- حياة وونج كار واي، ونشأته، وأسلوبيته السينمائية في الصناعة، وظروف صناعة العديد من أفلامه، وفلسفتها، ورؤيته السينمائية الخاصة جدا.
كما أثرى الكتاب بالعديد من الجداول التي تخص سينما المُخرج، وما كتبه من أفلام سواء له أو لغيره، والأفلام التي قام بإنتاجها من خلال شركة إنتاجه، وغير ذلك مما يخص المُخرج، بينما جاء القسم الثاني لينصب على أفلام المُخرج العشرة بالنقد والتحليل مُتابعا إياه عبر تطوره في صناعة الأفلام.
كلمة ظهر الغلاف
على ظهر الغلاف كتب محمود الغيطاني يقول: مع وونج كار واي نحن أمام عالم يلعب فيه الوقت وأثره دور البطولة المُطلقة؛ فالوقت قاس، وصارم، وحاد، وباتر، ومُتسارع، وأهوج، وربما أعمى وقادر على دهس كل شيء ببساطة من دون الالتفات إليه، لا سيما المشاعر الإنسانية؛ فمع مرور الوقت تتبدل طبيعة الأشياء، وتتغير- حتى لو كان هذا التغير من دون أي سبب- وتفقد الأمور صلاحيتها للاستمرار فيها؛ الأمر الذي يجعل من الذاكرة والذكريات سوطا قادرا على الجلد الدائم لصاحبها بسيطرتها الدائمة عليه، وتمكنها منه، أي أن الذكريات تتحول إلى محض سجن يعيش فيه صاحبها مُجترا إياها للأبد، غير قادر على الخروج منها، أو التملص منها اللهم إلا بالموت فقط- سنُلاحظ أن العديد من الشخصيات تموت من فرط العشق والاشتياق إلى ما فات- أو فقدان الذاكرة اللذين لا يأتيان لأصحابهما ببساطة؛ مما يجعلهم واقعين تحت سطوتها دائما، غير قادرين على الاستمرار في حياتهم بطبيعية نتيجة استعراضهم الدائم لما فات؛ فالذاكرة، عادة، ما تظل شاخصة أمامهم، مُتشيئة، ماثلة لهم، مُتكررة بكل أحداثها السابقة حتى لكأنها فيلم يتم إعادة عرضه أمامهم للأبد إلى أن تقضي عليهم بالحسرة، والندم في نهاية الأمر.
عالم مُخرج هونج كونج
وفي مقدمة الكتاب يقول المؤلف: إن الدخول إلى العالم الفيلمي الذي يقدمه مُخرج هونج كونج، الصيني وونج كار واي Wong Kar- Wai، يُعد بمثابة الدخول إلى غابة مُتشابكة وكثيفة من أدغال المشاعر المهزومة والبائسة.
السقوط في مأزق عاطفي وجودي لا يمكن للمُشاهد الخروج منه بسهولة إلا وقد ترك هذا المأزق بأثره عليه، الاستغراق في الذاكرة والذكريات التي لا تفتأ تجلد صاحبها معها حتى أنها تُشعره في النهاية بفرط ضآلته، وعبثية العالم من حوله؛ لمُطاردتها الدائمة له، والضغط عليه. التورط مع العشاق الشاعرين بالألم، والعذاب، والفقد، والشوق، والخذلان، والخيانات، والحاجة الماسة للتواصل الإنساني؛ نتيجة إدمانهم العاطفي لرفقائهم الذين تخلوا عنهم ببساطة، تتشابه إلى حد بعيد بمن يلقي أحد المناديل الورقية في سلة مُهملات من دون أي شعور بالذنب. التماهي مع الشخصيات الفيلمية التي تعاني الكثير من العذاب، وتذرف الأكثر من الدموع؛ لضياع العديد من الفرص التي كانت مُتاحة لهم مع رفقائهم، لكن المشاعر تبدلت فجأة ومن دون سابق إنذار، ومن دون أي سبب- إما لتوقف الحب، أو لانتهاء فترة صلاحيته- وهي الرؤية التي تُسيطر على العالم السينمائي الذي يدور فيه المُخرج في كل أفلامه؛ حيث تفيد فلسفته دائما: إن لكل شيء في الحياة فترة صلاحية لا بد من التوقف عندها، لا سيما المشاعر!
الوقت هو البطل
ويتابع محمود الغيطاني: مع وونج كار واي نحن أمام عالم يلعب فيه الوقت وأثره دور البطولة المُطلقة؛ فالوقت قاس، وصارم، وحاد، وباتر، ومُتسارع، وأهوج، وربما أعمى وقادر على دهس كل شيء ببساطة من دون الالتفات إليه، لا سيما المشاعر الإنسانية؛ فمع مرور الوقت تتبدل طبيعة الأشياء، وتتغير- حتى لو كان هذا التغير من دون أي سبب- وتفقد الأمور صلاحيتها للاستمرار فيها؛ الأمر الذي يجعل من الذاكرة والذكريات سوطا قادرا على الجلد الدائم لصاحبها بسيطرتها الدائمة عليه، وتمكنها منه، أي أن الذكريات تتحول إلى محض سجن يعيش فيه صاحبها مُجترا إياها للأبد، غير قادر على الخروج منها، أو التملص منها اللهم إلا بالموت فقط- سنُلاحظ أن العديد من الشخصيات تموت من فرط العشق والاشتياق إلى ما فات- أو فقدان الذاكرة اللذان لا يأتيان لأصحابهما ببساطة؛ مما يجعلهم واقعين تحت سطوتها دائما، غير قادرين على الاستمرار في حياتهم بطبيعية نتيجة استعراضهم الدائم لما فات؛ فالذاكرة دائما ما تظل شاخصة أمامهم، مُتشيئة، ماثلة لهم، مُتكررة بكل أحداثها السابقة حتى لكأنها فيلم يتم إعادة عرضه أمامهم للأبد إلى أن تقضي عليهم بالحسرة، والندم في نهاية الأمر.
ويخلص الغيطاني إلى نتيجة هامة وهي أننا أمام مُخرج يتأمل بروية وهدوء في المشاعر الإنسانية، وتبدلاتها، وتغيراتها، وتشابكها، وتعقيدها، وغرائبيتها، حتى أن هذا التأمل يحيلها إلى شكل من أشكال العذاب لجميع الشخصيات الفيلمية التي يقدمها؛ الأمر الذي يترك بأثره على المُشاهد المتورط معها ليتماهى مع هذه الشخصات الفيلمية شاعرا بما تشعر به من وحدة، وتوق، وخذلان، وشوق، ورغبة في التواصل الإنساني، والخروج من العدمية التي يشعر بها. هذا البؤس على مستوى المشاعر الذي يقدمه وونج كار واي- رغم سوداويته وألمه- سيبدو لنا- في أفلامه- أكثر حيوية وجمالا من مشاعر العشق الطبيعية، حتى لكأن العذاب في المشاعر لا يمكن له أن يبدو لنا جميلا إلا من خلال عيني هذا المُخرج القادر على مُمارسة السادية على شخصياته الفيلمية، ومُشاهديه ببساطة تجعل من المُشاهد مُستمتعا بما يُمارس عليه، في حالة من حالات المازوخية التي يتقمصها المُتلقي، حتى ليبدو لنا الأمر وكأنما هناك اتفاقا غير مُعلن، وتواطؤا ما بين كل من المُخرج والمُشاهد ليُمارس من خلاله المُخرج قسوته في التعبير عن المشاعر غير المُكتملة والناقصة، وغير الناضجة دائما لشخصياته وإسقاطها على المُشاهد، وفي المُقابل يتقبل المُتلقي هذه القسوة بالتماهي الكامل فيها وكأنما قد تلبسته رغبة مازوخية في المزيد من عذاب الذاكرة والذكريات التي يقدمها له المُخرج!
نحن نُحب ما لا يمكننا الحصول عليه
إنه العالم الذي وصفه، وعبر عنه بدقة وبراعة الصحفي برايان والش Bryan Walsh في مجلة "تايم" الأمريكية حينما أجرى حواره مع وونج كار واي بعنوان كان هو الأكثر دقة وتعبيرية عن عالم المُخرج فكتب: "نحن نُحب ما لا يمكننا الحصول عليه، ولا يمكننا الحصول على ما نحبه". إنه العنوان الذي يُعبر عن سينما المُخرج تماما حيث نرى الشخصيات المُعذبة التي يتركها أحباؤها للارتباط بغيرهم، بينما هناك آخرين يشعرون بالعشق تجاه هؤلاء المهجورين، لكنهم لا يشعرون بهم!
وأوضح الغيطاني في مقدمة الكتاب أن هذا الشعور بالوحدة الدائمة، والفقد والخذلان لكل شيء، فضلا عن الشعور بالضآلة والضياع – وفق الغيطاني - يقدمه المُخرج في إطار المُدن الكبرى والعواصم، وهو يتخذ من هونج كونج مثالا لكل العواصم الكبرى في العالم؛ حيث كل شيء فيها مُتبدل، ومُتغير، ومُتسارع، ويؤول به الأمر إلى زوال وعدم مُتلاشٍ ببساطة وكأنما هذه هي طبيعة الأشياء التي لا بد لها أن تكون عليها، ولكن لأن الإنسان هو الوحيد الراغب في الاستقرار والثبات، وأبدية الأشياء- لا سيما العلاقات والمشاعر- فهو يعاني كثيرا من هذا التغير القاسي؛ الأمر الذي يلقي به في جحيمه الشخصي الذي لا سبيل من الخلاص منه إلا بالتخلص من الذاكرة التي تظل مُتشبثة به، راغبة في إغراقه داخلها للأبد.
ويواصل: في عالم وونج كار واي لا سبيل لديمومة أي شيء، فكل شيء مُنته في النهاية، وإذا ما كان العشاق يرون أن مشاعرهم لا بد لها أن تكون أبدية ودائمة؛ فهو يؤكد لهم بأن المشاعر هي أول الأشياء التي لا بد لها أن تنتهي، وتتغير، وتتبدل؛ لأنها في حقيقتها لا تحتمل الاستمرار، بل لا بد لها من لحظة فارقة يتوقف عندها كل شيء، ويُصاب بالسكتة القلبية؛ ليصبح مُجرد عدم كأنه لم يكن من قبل!
إن كائنات وونج كار واي هي كائنات مُعذبة طوال الوقت، تعاني من تاريخها، وهو- كمُخرج- إن كان يؤمن بعدم أبدية الأشياء- مُعبرا عنها بالمشاعر المُنتهية الصلاحية- فهو يسحب هذه النظرة الفنية، والتأملية على كل مُفردات الحياة من حوله، وليس على المشاعر فقط، وهو ما نراه في أفلامه التي تؤكد على تغير وتبدل كل شيء؛ فالأماكن تتغير، والعادات والتقاليد، والثقافات، والرغبات، والأحداث، أي أن كل شيء في الحياة مآله الاختفاء في النهاية؛ لذلك فهو يُسيطر عليه إحساس دائم بالتوق إلى الماضي وتأمله؛ نتيجة إحساسه بأن الماضي إنما ينزوي ويزول تماما، حتى لكأنه راغب في إكساب الماضي شيء من الأبدية من خلال تسجيل هذا الماضي في أفلامه التي نرى فيها العديد من الأحداث، والسياسات، والثقافات التي سادت في ستينيات القرن الماضي في مدينة هونج كونج، ولم تعد موجودة الآن، أي أن المُخرج- بدوره- يُعاني من ذكرياته مع الأمكنة، والثقافة المُتبدلة، بينما تعاني شخصياته السينمائية من ذكرياتهم، وذاكرتهم مع أحبائهم!
يكتب الغيطاني في العديد من المجالات السردية والنقدية؛ ففي مجال الرواية كتب روايته "كائن العزلة" 2006م، و"كادرات بصرية" 2011م، وهي الرواية التي حاز عليها جائزة ساويرس كأحسن رواية عام 2012م، وفي مجال القصة القصيرة صدر له "لحظات صالحة للقتل" 2008م، و"اللامنتمي" 2018م، وفي مجال النقد الأدبي صدر له "زيف النقد ونقد الزيف: احتضار النقد العربي" 2017م، و"الفساد السياسي في الرواية المغاربية" 2018م، وفي مجال النقد السينمائي صدر له "سينما الطريق" 2007م، وهو كتاب مُشترك مع العديد من النقاد العرب، و"السينما النظيفة" 2010م، و"غسان عبد الخالق: سيرة سينمائية" 2014م، والجزء الأول والثاني من مشروعه الضخم "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م"، وهو الكتاب الذي سيصدر في خمسة أجزاء، وقد صدر الجزآن عام 2021م، بالإضافة إلى كتاب "جنة الممسوسين" 2018م، وهو كتاب حوارات ثقافية مع الكثيرين من الكتاب العرب.
ويُعد كتاب "سينما المشاعر المُنتهية الصلاحية" هو السابع للغيطاني في تعاونه مع دار فضاءات الأردنية التي يحرص على النشر معها مُنذ 2017م.