«الحرمان من المصروف».. قصة أول مكافأة حصل عليها إحسان عبدالقدوس
إحسان عبد القدوس الاسم الألمعي في عالم الصحافة والأدب، تفرد بأسلوب سهل ومبهر يصل إلى قلوب القراء بسرعة عجيبة؛ ما جعله الروائي الأشهر الذي تحولت أغلب أعماله إلى أفلام تليفزيونية.
وبمناسبة ذكرى ميلاد إحسان عبد القدوس اليوم لم نجد من يحكي عن قصة حياته أفضل من إحسان عبدالقدوس نفسه من خلال مقال نادر نشره الراحل.
يصف إحسان عبد القدوس يوم ميلاده قائلا: "في مثل هذا اليوم وفي منتصف الليل تماما وبينما كان التاريخ يقلب صفحات الزمن من عام إلى عام، والعالم يرقص ويتبادل الأنخاب والقبلات تحية لعام ۱۹۲۰، وكان المصريون في ثورتهم يحصدهم رصاص الإنجليز ليخمد في حناجرهم صوت الحرية والاستقلال دوت "واء.. واء" في أذن الوجود تبشر بمولدي السعيد"
وأضاف إحسان عبدالقدوس في مقاله: واستمرت حياتي إلى اليوم، صورة من ليلة مولدي: رقص ودموع، ودم وقبلات ولكمات وضحكات وعرق، وظلمات تبددها الأنوار.. ولا أذكر في حياتي أني ربحت ربحا سهلا أو حققت أمنية بمجرد أن طلبتها من الله، أو خطوت خطوة اعتمدت فيها على الحظ وحده.
أول قصة كتبها إحسان عبدالقدوس
يذكر إحسان عبدالقدوس أن أو قصة كتبها في حياته كانت في العاشرة من عمره، ويقول " كانت قصة تمثيلية أردت من أطفال الحي أن يقوموا بتمثيلها، ولكن أحد أقربائي -وكان يقوم بالإشراف على حياتي المدرسية- لمح القصة في يدي فضربني ضربا ما زالت آثاره فوق جسدي، ومزق القصة، فحاولت الانتحار؛ ثم فضلت عنه أن أهرب من المنزل، وقد هربت ليلتها وأعدت كتابة القصة على ضوء مصباح الشارع وقمنا بتمثيلها في اليوم التالي.
أول خبر صحفي في حياة إحسان عبدالقدوس
أول خبر صحفي كتبه إحسان عبدالقدوس جاء في سنته الرابعة الابتدائية بمدرسة "خليل أغا" الملكية، وكان عن نجل المغفور له "زكي الإبراشي" باشا، وكان طالبا معه في نفس المدرسة.
يحكي إحسان عبدالقدوس قصة الخبر قائلا: "قدمت الخبر إلى "مصطفى أمين" بك، وكان يتولى تحرير باب الطلبة في جريدة "روزاليوسف" فهنأني عليه ثم مزقه، وأعاد كتابته وعرضه على الأستاذ "التابعي" فهنأه عليه ثم مزقه وكتبه من جديد!
"وعلم ناظر المدرسة أني أنا الذي أوصل الخبر إلى الجريدة، فناداني وضربني "قفا"، ثم صادرني من المدرسة لأنه لم يستطع أن يصادر المجلة.. ورفت!"
وتابع إحسان عبدالقدوس:"عندما كنت في الرابعة عشر من عمري أردت أن أسافر إلى الإسكندرية في الصيف فمنعني والدي، ومنع عنى النقود وكان لى "حصالة" صغيرة كنت أحتفظ بها للأيام السود وكانت تحوي تحويش العمر كله.. واعتقدت أن أيام الصيف في القاهرة هي الأيام السود فحطمت الحصالة وكان بها خمسة جنيهات أخذتها وهربت إلى الإسكندرية، وقضيت هناك ثلاثة وثلاثين يوما كنت خلالها أطهى طعامي بنفسي، وأغسل ثيابي بيدي، وأكنس وأمسح الكابين الصغير الذي كنت أقيم فيه.. وكتب عني يومها الأستاذ "فكري أباظة" بك في جريدة المصور، مشيدا باعتماد الشباب على نفسه، وقد اعتبرت نفسي يومها عظيما من العظماء الذين تكتب عنهم الصحف، رغم أنه كان يسرني أن أعتمد على والدي لا على نفسي في التصييف!
أول قطعة أدبية
أما أول قطعة أدبية نشرت للكاتب إحسان عبدالقدوس فكانت في جريدة "روزاليوسف" اليومية عام ١٩٣٥، وكانت من الشعر المنثور، وعنوانها «أخيرا وجدها»، يقول إحسان: أرسلتها إلى الجريدة بالبريد وبلا إمضاء، فنشرت في الصفحة الأدبية، وذهبت بعدها إلى والدتي السيدة "روزاليوسف" لأكشف لها عن شخصية الكاتب العظيم صاحب هذه القطعة الأدبية الخالدة، ولكنها ما كادت تعلم أن هذا الكاتب العظيم هو أنا حتى ثارت في وجهي وحرمتني من مصروف يدي، فقد كان موضوع القصة الأدبية يدور حول فتاة وخمر، وكانت والدتي تظن حتى ذلك الحين أني أجهل ما هي الفتاة؟ وما هي الخمر؟!
ويواصل إحسان عبدالقدوس سرد قصته بأسلوبه المبهر قائلا: "عندما نلت ليسانس الحقوق ورفضت وظيفة سكرتير عرضها على المرحوم "أمين عثمان" باشا، ورفضت أن ألتحق بعدة شركات، وقررت أن أشتغل بالصحافة مدة خمس سنوات فإن لم أنجح فقد بقى لي من عمرى ما يكفي لأن أتجه اتجاها آخر.."
إحسان عبدالقدوس ومصطفى أمين
"وقد بدت جميع المقدمات تبشر بفشلي في الصحافة.. فقد طردت من جريدة "روزاليوسف" لأنه كانت لي آراء لم يوافق عليها رئيس تحريرها في ذلك الوقت، ورفضت الاشتغال في مجلة "الاثنين" لأن رئيس تحريرها -مصطفى أمين بك- رفض أن يوقع باسمي مقالا كتبته ونشره؛ ثم عملت في جريدة "آخر ساعة" وارتقيت فيها إلى حد كان الأستاذ "التابعي" يعهد إليّ بالإشراف على تحريرها أثناء غيابه في رأس البر، ورغم ذلك فلم يكن لي حق الإمضاء إلا بالحرف الأول من اسمى «إ»، ثم أصبح إمضائي قاصرا على اسمي دون لقبي فكنت أوقع «إحسان»، وكان أغلب القراء يعتقدون أن الكاتب "فتاة" !
وأخيرا تركت "آخر ساعة" لأبحث عن جريدة ترضى أن أوقع اسمى كاملا، ولكني لم أجد.
ويستطرد: "كنت قد تزوجت في ذلك الحين، وكانت عائلة زوجتى تستنكف أن أكون صحفيا حتى إنهم كتبوا في بطاقة الدعوة إلى عقد القران أني «محام» لا «صحفي»، وكانوا يلحون علي أن أهجر الصحافة لأشتغل بالمحاماة ولكني رفضت أن أهجرها قبل مضى الخمس سنوات التي حددتها للتجربة، ووافقتني زوجتي على رأيي فكان أن قضيت ثلاثة أشهر عاطلا لم يزد دخلى خلالها عن ستة جنيهات في الشهر، وكنت كلما عرضت علي جريدة أن أعمل بها أشترط أن أضع اسمی کاملا متى أردت وفي أي صفحة أردت فكان رؤساء التحرير يرفضون!
إحسان عبدالقدوس والسينما
يواصل إحسان عبدالقدوس سرد قصة حياته -من خلال مقاله النادر- قائلا:" في الشهر الثالث فكرت في أن أكتب قصصا للسينما، فكتبت ثلاث قصص في يوم واحد اشترتها منى السيدة "عزيزة أمير" بمبلغ ٢٤٠ جنيها، وعندما أمسكت بالشيك في يدي لم أستطع أن أقول لصاحبته شکرا بل جريت إلى بيتى، وما كدت أدخل إليه حتى وضعت رأسي في الأرض وضربت "بلانس"، وكان أول وآخر «بلانس في حياتي»..وضعت الشيك في يد زوجتى فبكت!
"وعدت إلى جريدة "روزاليوسف" وقد أصبح لى حق الإمضاء، ولكني طالبت بأن أكون رئيسا للتحرير، فرفضت والدتى واستمرت في رفضها إلى أن بدأت حملتي على اللورد "كيلرن" ودخلت السجن، وعندما خرجت كافأتني بأن عهدت إلي برئاسة التحرير وعندما خرج اللورد "کیلرن" من مصر كافأتني بمائة جنيه، وبقى حساب السير "هدلستون" حاكم السودان !
ويختتم الحكاية بقوله: "هذه هي قبلات الزمن وصفعاته، ودموعي وبسماتي".