باحث في الأنثروبولوجيا الثقافية: النوبة أرض الذهب ونقطة التقاء ثقافة الشمال والجنوب
أكد الدكتور محمد أمين عبد الصمد الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية أن اسم "النوبة" يطلق على منطقة شهيرة من أرض وادي النيل تتسم بخصوصية ثقافية تميزها في إطار تنويعات ثقافة الوطن.
وقال عبد الصمد اليوم ، إن بعض الكتاب يقسمون هذه المنطقة إلى جملة أقسام ، فمنهم من يطلق اسم وادي الكنوز على المنطقة الواقعة جنوب الدر حتى وادي حلفا ويتخلل هاتين المنطقتين منطقة ثالثة تدعى وادي العرب. مشيرا إلى أن منطقة الكنوز تنسب إلى "أبو المكارم" هبة الله الذى لقبه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بـ " كنز الدولة".
وأضاف أن البعض يرجع أصل تسمية النوبة بهذا الاسم إلى كلمة "نوب" ومعناها باللغة المصرية القديمة " الذهب" والبعض الأخر يرجع هذا الاسم إلى أنهم (رماة النبال) وذلك لمهارتهم الشديدة في هذا الجانب الحربي , حتى أن العرب لاحقاً سموهم (رماة الأحداق) .
وأشار إلى أن هناك بعض الدراسات الأنثروبولوجية انتهت إلى أن سكان شمال مصر تغلب عليهم سمات الجنس السامي بينما تغلب سمات الجنس الحامي على جنوب مصر ويبزغ رأى يحمل خصوصيته لـ "فلاندرز تبرى" الذى توصل من خلال حفائره في منطقة "نقادة" إلى وحدة ونقاء الجنس المصري ونفى تماماً اختلاطه بأي جنس من الأجناس وأن الحضارة المصرية هي إبداع خاص بالمصريين فالحضارة المصرية هي هبة أهلها وليست هبة النيل كما قال "هيرودوت".
وأوضح أن "النوبة" ظلت دائماً معبراً ونقطة التقاء بين ثقافة الشمال وثقافة الجنوب فتشكلت خصوصيتها وفرادتها حيث تتسم الثقافة الشعبية النوبية بالثراء الشديد والتنوع والعراقة مستفيدة من موقع جعلها إطاراً لتفاعلات ثقافية من مختلف الاتجاهات تلاقت في إطار المكان فأنتجت سبيكتها. وتتحلى خصوصيتها الثقافية في عاداتها وتقاليدها وفنونها القولية وفنونها المادية وأشكال احتفالاتها ومناسباتها ومعتقداتها التي تشكل منظومة قيمتها وتحكم أسلوب حياتها.
وذكر أن الفنون النوبية تحمل رموزاً تعكس دلالاتها معتقدات شعبية وأسطورية موغلة في عراقتها, ويظهر ذلك في الرسوم الجدارية التي تزين واجهات منازل النوبيين ومداخلها, ورسومات الوشم التي تزين اليدين والجبهة وزخارف وتشكيل الخرز ومشغولات السعف " والسمار" من سِلال وأطباق وحصير وبعض رسومات غطاء الرأس سواء أكان سيفاً يرمز للقوة والبطولة أو الهلال الذي يرمز للتفاؤل أو وحدة زخرفية مأخوذة من سعف النخيل دلالة على الخصب.
وفيما يتعلق بالنشاط الاقتصادي للمنطقة، ذكر أن الزراعة تشكل نشاطا رئيسيا لأهل النوبة قبل بناء السد العالي كانت المساحة الصالحة للزراعة بجوار النيل ضيقة وتتباين اتساعها من منطقة إلى أخرى لكنها لم تخرج عن صفة الضيق لذا كان يتم استغلال هذه المنطقة في الزراعة بشكل كامل ، وكان النوبيون يشيدون منازلهم على تخوم الأرض الزراعية, حفاظاً على المساحة الصالحة للزراعة وحماية لأنفسهم من فيضانات النيل المتتالية.
وأوضح أن من أهم زراعات النوبيين القمح والذرة الشامية والفول والعدس؛ وهى بقوليات مهمة للاستخدام المنزلي. لكن ثروتهم الحقيقية ومحصولهم النقدي كان يأتي من أشجار النخيل وما تدره من محصول يمكن ترجمته سريعا لمقابل نقدي يمثل العمود الفقري لاقتصاد الأسرة النوبية، لافتا إلى أن جزءا من الوضع الاجتماعي يتحدد بالحصة التي يملكها الفرد أو الأسرة من أشجار النخيل.
وقال الدكتور محمد أمين عبد الصمد الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية إن المجتمع النوبي بمختلف تنويعاته يتكون من عدة قبائل تربطها علاقة الدم والأصل المشترك, وتنعقد الزعامة والقيادة عرفياً في أحد البيوت التي تتوارث القيادة الشعبية لأسباب عدة منها ما هو اقتصادي كامتلاك مقدار من الثروة يؤهله لتحمل تبعات تلك الزعامة والتزاماتها قبل مجتمعه والغير ، كما أنها دليل على الاستغناء والتجرد ومنها ما هو اجتماعي مثل انتمائه لأسرة أو عائلة اشتهرت بعُلو القيمة الاجتماعية ومنها ما هو اعتقادي مثل الانتماء لنسب يعود إلى صحابي أو ولى أو النسب للفترة النبوية ومنها ما هو شخصي وهى السمات المميزة للشخص مثل السمعة الطيبة والرصانة في التصرف والحكمة في اتخاذ القرار ومعرفته بالتاريخ الاجتماعي للقبائل والعائلات ومعرفته بالجوانب المختلفة للأعراف والتقاليد وسوابق الحكم بها.
وأضاف:إنه عند نشوب مشكلة يتولى كبار القبائل وعواقلها حلها, وفى حلهم وحكمهم في القضايا التي تعرض لهم يحرصون على التئام الجماعة وتوازنها وإرضاء النفوس والحفاظ على وحدة المجتمع واستقراره ، فالحكم العرفي في قضايا ما ليس بحثاً عن عقاب الجاني أو المخطئ بل هو جبر للخطأ ومحاسبة للمخطئ في إطار إعادته للمجتمع وقبول المجتمع له.
وأوضح عبدالصمد أنه من المعروف والمشهور عن المجتمع النوبي أنه من المجتمعات التي يندر بل ينعدم فيها الثأر, وإن لا قدر الله وحدثت جريمة قتل فتكون العقوبة هي طرد القاتل بمفرده ونفيه من بلاد النوبة, ولا يُلزم الحكم أهله أو أسرته بالخروج معه, فهم أصحاب الخيار في الاستمرار في مجتمعهم مطمئنين وفى سلام فلا ثأر ولا دماء جديدة أو الخروج مع المنفى من البلاد.