عمرو الخياط يكتب: «الفوضى المُخلَّقة»
قبل عشر سنوات وقفت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس في قلب القاهرة تتحدث صراحة عما أسمته وقتها بالفوضى الخلاقة، عرابة الفوضى أطلقت نداءها فانتشرت رسائله لتصل إلى خلاياها النائمة كما تنتشر كرات البلياردو بعد ضربة البداية، اللاعب هنا يبادر بالضربة الأولى لكن انتشار الكرات في اتجاهات عشوائية يخرج عن السيطرة، وهو المطلوب تحقيقه.
عشر سنوات دفعت خلالها رقعة الشطرنج العربية ثمنًا فادحًا، فسقطت دول وقتلت شعوب وهدمت بيع وصوامع وظهر الفساد في البر والبحر، من جراء الموجات المتتالية لتأثيرات النداء الأمريكي الذى جرى على لسان كونداليزا التي تعمدت استخدام مصطلح "الخلاقة" لتكريس فكرة المفهوم الإيجابي لذلك المصطلح، لكن التجربة أثبتت ما يحمله من خبث وإفساد، وكشفت عن حقيقة "الفوضى المخلقة" التي نفذتها أيقونات مصطنعة، وشخصيات تحولت لمحميات سياسية حاضنة لأفكار وتكتيكات الفوضى في مواجهة دولها بعد أن رفعت شعار "ممنوع الاقتراب أو التصوير" بهدف منحها حصانة ضد انطباق قوانين أوطانها عليها، فتسير في الإجراءات التنفيذية لنشر الفوضى آمنة مطمئنة في حماية الآلة الإعلامية والحقوقية الدولية.
ليس صحيحًا أن مخطط "الفوضى المخلقة" كان يستهدف التغيير بل الهدف هو التدمير، كانت ضرباته تستهدف الحالة الوجودية لدول الشرق الأوسط وصولًا إلى أقدم دولة عرفتها البشرية، وصولًا إلى أرض القاهرة، هنا كان الموعد مختلفًا، بحق لقد كان الوعد مصريا بامتياز بعد أن بددت شمس 30 يونيو ظلام الفوضى المستهدفة.
لا أدرى كيف كان هناك رموز في الإدارة الأمريكية ساقتهم أفكارهم إلى أن الشعب المصري صاحب أقدم حضارة في الوجود سيسمح بانهيار وطنه، ما حدث عكس ذلك بعد أن استدعت ضربات الفوضى أبعد نقطة في رصيد الإدراك والفطرة والغريزة الوطنية المصرية التي أدركت خطورة الذى جرى وقتها، فتشكلت جبهة داخلية شديدة الصلابة استطاعت تحمل الضربات واحدة تلو الأخرى.
ولم يكن مدهشًا ما ظهر من التماهي الإخواني مع الحالة لنكون أمام دليل يقيني على أن هذا التنظيم الفيروسي المخلق هو خارج فكرة الوطن المصري.
مرت السنوات العشر وقد انتشرت الجراح الإقليمية في الجسد العربي، في العراق، وفي سوريا، وفي ليبيا واليمن، وحدها مصر قدمت نموذجًا أسطوريًا في الصمود ولازالت المواجهة مستمرة في ظل أدوات محدودة ومساحات للمناورة السياسية تكاد لا ترى بالعين المجردة.
في بيئة مضطربة تظل الخطوات المصرية محسوبة حتى لو اضطرت للتباطؤ التكتيكي دون عودة إلى الخلف، بهدوء دبلوماسي تحاول مصر أن تتدفق حول الأزمات من أجل إحكام السيطرة عليها، ودون خطابات شعبوية يحتفظ رئيس الدولة بقدرة مذهلة على الثبات الانفعالي الرئاسي في إصرار واضح على الوصول بالدولة لمناطق "استقرار القوة" و"قوة الاستقرار"، دون أن يحيد قيد أنملة عن الهدف الذى جاء من أجله وهو تمكين المصريين من العيش في أمان وتجنيبهم ويلات المغامرات غير المحسوبة أو التورطات في براثن شهوات بناء المجد الشخصي.
بعد السنوات العشر نجد أنفسنا أمام مشهد غير مسبوق لاقتحام الكونجرس الأمريكي من أجل تعطيل جلسة التصديق على فوز المرشح جو بايدن، وقد أسفرت الأحداث عن مقتل أربعة أمريكيين أثناء تدخل القوات الأمريكية لحماية رمز سلطتها التشريعية ومنع تعطيل عملها تكريسًا لقدسية دولة القانون والدستور.
تظهر هنا بوضوح فكرة "السيستم− system" الأمريكية التي تحيط بالمواطن الأمريكي طوال الوقت وتفرض عليه سياجًا صارمًا يكون الخروج عنه بمثابة خطر داهم على الأمن القومي الأمريكي، وقد حدث بالفعل أن حالة الفوضى التي أحاطت بالكونجرس كتبت نهايتها الفورية بدماء أمريكية سالت على جدران المبنى لتنعقد الجلسة، وليثبت "السيستم" رسوخه وقدرته على منح مؤسسات الدولة أدواتها الشرعية للحماية الوجودية.
الفكرة الأمريكية تعبر بوضوح عن حق كل دولة في فرض "السيستم" القادر على حماية وجودها.
لكن الإدارة الأمريكية تعمدت أن تستخدم مصطلح الدفاع عن الديمقراطية لتوصيف ما تفعله أجهزتها الأمنية، وقدمت مشهدًا سينمائيًا عنوانه "الديمقراطية تحت الهجوم" يصلح أن يكون عنوانًا تجاريًا لفيلم سنشاهده قريبًا يحمل أفيشه عبارة "Democracy under Attack" ليس إيمانًا منها بفكرة مطلقة ولكن من أجل تكريس فكرة أن ما حدث كان مبرره الدفاع عن الحالة الديمقراطية وليس الحالة الوجودية لهيبة "السيستم"، وبالتالي تستطيع الإدارة الأمريكية القادمة الاستمرار في الاستخدام السياسي لمفردات الديمقراطية الفضفاضة دون أن تكون ملزمة بالدفاع عن مبررات سقوط الدم الأمريكي في بهو الكونجرس.
سوف نستبق الأحداث لنبشر هنا بأن المرشح الخاسر دونالد ترامب سيتعرض للمحاكمة بتهمة معلنة وهي الانقلاب على الديمقراطية، بينما الأمر في حقيقته أنه ظن أن بإمكانه الخروج عن السيستم، لتصبح التهمة الحقيقية هي الشروع في كسر السيستم بتكييف قانوني سياسي وهو تعطيل الديمقراطية لإضافة قيم أمريكية ليس لها وجود إلا في ملفات التدخل في شئون الدول.
ولا تندهش إذا وجدت وكلاء الإدارة الأمريكية الجديدة في مصر وفي المنطقة العربية يبادرون ويدعون للدفاع عن نموذج الديمقراطية الأمريكي بينما هم يدافعون عن السيستم الذي كان تجنيدهم أحد أدواته.
المشهد يقول إن حق كل دولة فى بناء "سيستمها" هو أمر مكفول في بنود الدستور الوجودي لهذه الدولة، حتى وإن كان ذلك على الطريقة الأمريكية التي حولت الديمقراطية لإحدى أدوات حماية السيستم وليست إحدى قيمه ومبادئه، فالذي انتصر في بهو الكونجرس هو السيستم وليس الديمقراطية.