عمرو الخياط يكتب: قوتنا الذاتية
لا أجد ما يمكن أن أصف به مشاعر المصريين يوم الخامس من يونيو عام ٦٧، ولا أعرف كيف كان يمكن احتمال مشاعر الألم ومرارة الهزيمة وسط كل دعاوى الانكسار والاستسلام لحالة انهزام داخلي.
في نهاية هذا اليوم كانت كل التقديرات التي تدعى المنطق وغيرها ممن سيطرت عليه حالة من الغطرسة، راحت جميعها تدعى أن مصر قد انكسرت انكسارًا طويل الأمد، بل إن البعض راح يدعى أنها تعرضت لحالة موت إقليمي إكلينيكي.
لقد كانت حملات الشماتة والكراهية تواصل العدوان النفسي من أجل احتلال وجدان المصريين ومنعهم من تجاوز الهزيمة و فرض حالة استسلام للأمر الواقع، لكن كل الحسابات لم تدرك مخزون الصلابة الاستراتيجية داخل نفوس المصريين والذى تم استدعاؤه على الفور لإعادة شحن رصيد القوة الذاتية لمكونات الدولة المصرية.
الحقيقة تقول إن تفاعل الهزيمة الظالمة داخل وجدان المصريين كان قد انتهى تمامًا عشية يوم الخامس من يونيو، ليتحول إلى رصيد من الغضب منتهيًا بقرار جمعي بحتمية الحرب، وقتها بدا أن من أقبل على المساس بكرامة الوطنية المصرية لم يكن مدركًا لتداعيات ما فعله فلم يتوقع رد الفعل الذي تدفق نحو هدفه في موجات هادرة لم تتوقف على مدار السنوات الست.
جميع الحسابات العسكرية كانت قد حسمت المعركة لصالح الأوهام الإسرائيلية دون أن تدرك ما يعنيه البناء الحضاري للشخصية المصرية المرتكزة على امتداد تاريخي بعمق سبعة آلاف عام، من أقبل على ذلك لم يكن مدركًا أن مصر ليست مساحة من الأرض الساكنة أو دولة عابرة، لم يدرك أن مصر فكرة فلسفية عميقة يستمد الزمن قيمته من سرد تاريخها على صفحاته.
لقد كانت كلمة السر هي القوة الذاتية للدولة المصرية على الصعيد الشخصي للمواطن وعلى الصعيد المؤسسي لمكونات الدولة، وبعد وقت قصير كانت حرب الاستنزاف قد بدأت فتحول القرار المصري عسكريًا وشعبيًا من إرادة استئناف المعركة إلى إرادة تحقيق النصر واستعادة شرف الأمة الجريحة.
منذ لحظة الهزيمة اتخذت مصر قرارًا بالتوحد والاتحاد فتحولت بالكامل إلى جبهة متماسكة شديدة الصلابة، وقبل بناء حائط الصواريخ كان المصريون قد شيدوا حائط الإرادة الوطنية، وقبل عبور القناة كان المصريون بالفعل قد عبروا ظلمات الهزيمة وراحوا يضيئون الدروب نحو النصر.
لم يملك العالم بأسره إلا أن يقف مذهولا أمام إعجاز الإرادة المصرية التي عبرت بأعظم دولة في التاريخ من حالة الظلام الحالك إلى حالة الضياء المبين.
لقد كانت لحظة العبور بحجم قيمة هذه الدولة التي أدركها في ذلك الوقت كل مصري ومصرية فكانت المعركة بحجم هذا الإدراك، لقد أثبتت المعركة ونتائجها أن من لم يدرك قيمة مصر لن يرحمه التاريخ.
منذ تلك اللحظة التي استطاع فيها المصريون امتلاك مكونات إرادتهم واستحضار رصيد حضارتهم الضاربة في جذور التاريخ ودمجهما داخل الوجدان المصري فخلقوا حاضرًا مشيدًا بثراء تلك التفاصيل والمكونات، منذ تلك اللحظة والشخصية المصرية مستهدفة بفرض حالة انهزام داخلي عليها تحول دون إمكانيةً تحقيقها لأي انتصار مستقبلي أو تجاوز أي عثرة كما تجاوزت النكسة.
لقد كان الاستهداف بالتشويه والتغريب للهوية تارة وبالتشكيك في ثوابت الدولة الوطنية تارة أخرى على مدار أربعين عامًا متواصلة جعلت البعض يعتقد أن مصر قد استكانت لحالة من الاحتلال المحلى الذى حاول تنظيم الإخوان ممارسته نيابة عن مشغله الأجنبي، فإذا بالتاريخ يعيد نفسه فتنهض مصر في لحظة من خلف الزمن وتستعيد توحد عناصرها الوطنية لتقول كلمتها للعالم كله في يوم ٣٠ يونيو عام ٢٠١٣.
لم تكن ٣٠ يونيو نزوة شعبية أو سياسية بل كانت تعبيرًا صريحًا عن حقيقة معدن الدولة المصرية وشعبها، لقد كانت بمثابة عبور جديد بعد أن تعرضت مصر لاحتلال داخلي من تنظيم دولي ينتحل الصفة المصرية، وبعد أن استعادت مصر كامل أراضيها التي كانت محتلة بعد النكسة فإنها استطاعت مرة أخرى أن تستعيد كامل إرادتها بعد نكسة الإخوان.
لا تتوقف المعركة أبداً، ولا تتوقف محاولات استهداف الإرادة، ولا يتوقف التنظيم الإخواني عن ممارسة العمالة المعلنة، ولا يملك المصريون إلا حتمية المحافظة على استقلال وسيادة وعيهم.
لم تنته المعركة عشية ٣ يوليو بعد عزل التنظيم بل أنها بدأت بالفعل، بعد أن أدرك هذا التنظيم ومشغلوه أن العلاقة الصلبة بين الجيش وشعبه هي كلمة السر، ومنذ تلك اللحظة لا تتوقف محاولات تحريف نص هذه الكلمة، ظنًا أن المصريين يمكن أن يستسلموا لتلك الحالة أو أن تعتري ذاكرتهم الوطنية هجمات الملل أو النسيان فتغيب قيمة مصر عن وجدانهم ويديرون ظهرهم لمعركة وطنهم فيتسلل التنظيم وفلوله مرة أخرى نحو إرادتهم، لكن من يعتقد ذلك يثبت أن إرادة الله قد طمست على عقله وقلبه.
مصر محبوبة الله في أرضه تجلى عليها بنور وجهه فأشرقت جنباتها وتحصنت قلوب محبيها بمنحة من المولى عز وجل، وربما يعتري وجهها آثار للعناء لكنها في كل مرة تقدم للإنسانية فصلاً جديداً من فصول الكرامة الوطنية.