عمرو الخياط يكتب عن: تجديد الخطاب الفني
نشر
الفن هو صنوف من البهجة تنشأ نتيجة لإفراز مجتمعي ينتج أنواعًا تعبر عن أفكاره، ولا تستمر إلا في محيط حاضن اجتماعي قادر على تذوقها وتعاطيها وتداولها.
وحتى لو كانت بعض أنواع الفن وافدة إلينا، فإنها لا يمكن أن تستقر أو تستمر إلا إذا كان المحيط الاجتماعي رضيها وقبلها واستقبلها بعد أن تأكد أنها قابلة للاندماج في نسيج هويته الفنية، هنا تتزاوج الفنون تحت شعار " لا إكراه في الفن".
ولكن هذه الفنون الأصيلة تتأثر بتقلبات المجتمع والسياسة التي تفرز أمزجة جديدة، والتي بدورها تفرز احتياجات جديدة بحاجة ملحة لإشباعات جديدة، هنا تظهر الأزمة بعدما يثبت قصور ظاهر للحركة الفنية القائمة عن مواكبة التطور الفني الحادث، إما لأن ما يعتقد أنه ثوابت فنية قد أصبحت متراجعة التأثير أو أنها أصبحت عاجزة عن إشباع الاحتياجات المزاجية الجديدة ليفرز الوضع ضرورة ملحة لتجديد الخطاب الفني.
سيظهر البعض متجولًا في وسائل الإعلام متقمصًا دور الوصي على حالة الفن وصولًا لأن يتحول إلى وصي على المزاج العام للمجتمع ، متناسيًا أنه نفسه مسؤلًا عن حالة الإنتاج الفني التي يجب أن تشبع هذا المزاج، لأن هذا المزاج هو المستهلك للمنتج الفني، فإذا أعجبته البضاعة الفنية أصبح مستهلكًا ومروجًا لها، وإذا لم تعجبه أعرض عنها فأصبحت بضاعة كاسدة حتمًا سيتجاوزها الزمن.
الحقيقة الفنية تقول: إن الشعوب في حالة نهم متجددة لجرعات فنية مستديمة فإذا لم يجد في الفن الراقي إشباعًا وجد في غيره إشباعات، وبالتالي لا يمكن لومه على عملية الاستهلاك لما هو متاح لأنه لم يجد ما هو جيد أو مشبع لمزاجه.
هنا يصبح من يدعي مسؤليته عن الفن الجيد، قد أدان نفسه لأنه لم يتح هذا المنتج فترك مزاج الجمهور لما هو متاح وليس لما هو ضروري من وجهة نظره.
هنا يجب أن نتوقف بالتحليل عند قيمة وتأثير الفن في وجدان الشعب المصري ، كيف يستقبله وكيف يستهلكه وكيف يتأثر به ويؤثر فيه ؟، لنجد أنفسنا أمام حالة مصرية متفردة تتعامل مع الفن باعتباره أحد عناصر السلام الاجتماعي بل وأحد عناصر الالتفاف والتوحد حول أهم القضايا الوطنية.
لا يمكن هنا أن يتعامل البعض من منتجي الفن من منطلق الاستعلاء، لنجد أنفسنا أمام حالة طبقية فنية تحول الفن من أداة رئيسة لإقرار السلام الاجتماعي إلى أداة لأحداث تنافر اجتماعي بادعاء أن هناك فنًا يعبر عن طبقة معينة وآخر يعبر عن طبقة أخرى وهو أمر غير صحيح ، لأن المصريين يستقبلون كل ما يصنع بهجتهم ويتعاطونه دون النظر للطبقة التي ينتمي إليها من صنع هذه البهجة.
في هذا السياق فإن بعض من وصفوا مؤخرًا بمطربي المهرجانات قدموا ألوانًا مختلفة صنعت بهجة مجتمعية، وهم أنفسهم من أصبحوا نجومًا لحفلات وأفراح الطبقات التي تحسب نفسها طبقات راقية ماديًا أو اجتماعيًا، لتثبت هذا الحالة أن الذوق المصري العام يخضع لحالة سلام اجتماعي فني لا يعرف التفاوت الطبقي ما ظهر منه وما بطن.
للمفارقة فإن المطرب عمر كمال الذي شارك في أداء الأغنية الأخيرة التي أحدثت أزمة مصطنعة هو نفسه من شارك في تلحين إحدى أغنيات العملاق هاني شاكر، وهنا لا يمكن القول بأن هاني شاكر قد خضع لعملية ابتزاز فقرر التراجع عن تاريخه الفني، بل العكس فإن هاني شاكر قد تعامل مع منتج فني رآه جيدًا دون النظر للطبقة الاجتماعية لصانع هذه البهجة.
الواقع الفني المصري يتجاوز محاولات المنع المطلق، كما أن مساحات التواصل الاجتماعي جعلت فكرة المنع والحجب مستحيلة، وإذا كان هناك من يدعو لهذا المنع فإن عليه أن يكون قادرًا على تحقيقه على أسس من القانون والفن، كما أن عليه أن يدرك أنه إذا حقق المنع لبعض أنواع الفن فإن عليه أن يكون قادرًا على إدارة ألة ضخمة لإنتاج أصناف بديلة من الفن الذي يمكن استقباله وقبوله جماهيريًا، وهو أمر معقد سيجد من أخذه على عاتقه أنه قد حمل نفسه ما هو فوق طاقتها عندما أعتقد أن هناك فن ملزم يفرض على الجماهير، في حين أن الجمهور يتعامل بما هو أبسط فيستقبل كل ما هو مبهج دون البحث الشاق في أصول نشأته أو صناعته أو طبيعة صناعة.
نتوقف هنا عند أغنية محددة، وللدهشة هي أغنية وطنية باسم " تسلم الأيادي" فإنه قد شارك في أدائها العلني مجموعة من الفنانين ينتمون لتصنيفات فنية مختلفة، ورغم ذلك فإنها أحدثت حالة توحد شعبي وتم ترديدها في الإفراح الشعبية والراقية والمتوسطة في إيمان بالجيش العظيم واستمتاعًا بحالة الحماس والبهجة التي أحدثتها.
نحن أمام إفراز مجتمعي شامل حتمًا قد أثر في الحالة الفنية، فأفرز صنوفًا من الغناء غالبًا ما تعبر عن رغبة ملحة في الاستمتاع بالبهجة بعدما أثقلت السياسة واستقطاباتها كاهل المصريين منذ العام ٢٠١١ أي ما يقرب من عقد كامل شهد تقلبات اجتماعية حادة أدت لتقلبات مزاجية متنوعة، وبالتالي فإن من يعتقد أنه قادر على أن يفرض تراثه الفني فإنه سيجد نفسه قد دخل في صراع مجتمعي ليس مع من يقدمون الفن الذي يراه دون المستوى فقط، بل مع كل من استمتع بحالة البهجة التي أحدثها هذا الفن، ليحد نفسه أنه يحصد نتاج عجزه عن تجديد خطابه الفني.